الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في انقطاع الاعتكاف لعذر]

                                                                                                                                                                                        وإذا غلب المعتكف على تمام ما دخل فيه لمرض، فإنه لا يخلو اعتكافه ذلك من ثلاثة أوجه: إما أن يكون منذورا مضمونا، أو منذورا معينا، أو متطوعا به بغير نذر. فإن كان منذورا مضمونا وجب عليه قضاء الأيام التي مرضها إذا صح، واصلا لما مضى من الاعتكاف.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا كان منذورا معينا، فقال ابن القاسم في المدونة فيمن نذر اعتكاف شعبان فمرضه: لا قضاء عليه. وعلى قول مالك في المبسوط فيمن نذر صوم يوم فمرضه أن عليه القضاء- يكون على من نذر اعتكاف ذلك اليوم القضاء. وعلى قول عبد الملك ينظر إلى اعتكافه، فإن علقه بوقت يرجو بركته على غيره كرمضان والمحرم وما أشبه ذلك، فصح بعد انقضائه- لم يكن عليه قضاء، وإن لم يكن له قصد في فضيلة ذلك على غيره- كان عليه القضاء، وإن كان متطوعا لم يكن عليه قضاء.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في المدونة فيمن نذر اعتكاف شعبان فمرضه: لا شيء عليه. وإن نذرته امرأة اعتكافا فحاضت، وصلت قضاءها بما اعتكفت. قال ابن عبدوس: إنما فرق ابن القاسم بينهما لأن الأول مرض الشهر كله، والحائض إنما تحيض بعض الشهر ثم تكون طاهرا فعليها أن تقضي. [ ص: 848 ]

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رضي الله عنه-: ولا فرق بين أن يتقدم الحيض أو الاعتكاف، وإن نذرت الشهر وهي تنوي ما تكون منه طاهرا- لم يكن عليها في أيام الحيض شيء. وإن أدخلت أيام الحيض في نذرها وهي ممن تظن أنه يجوز اعتكافها فيه فغلبت جرت في أيام الحيض على الاختلاف في المرض. وإن كانت عالمة أنه لا يجوز لها نذرها- لم يلزمها قضاء; لأنه نذر في معصية، ويستحسن لها أن تعتكف مثل تلك الأيام; لتكون كفارة لنذرها.

                                                                                                                                                                                        وإذا كان النذر مضمونا في الذمة فجعله في شعبان ومرض بعد أن اعتكف خمسة أيام منه ثم صح في رمضان، فإن كان أوجبه على ما يوجبه الشرع ولم ينذر له صوما- جاز أن يحتسب بخمسة من رمضان; لأنه قد كان له أن يجعله في رمضان ويجزئه عن صومه، فلما جعله في شعبان كان متطوعا بالصوم في شعبان، فلما غلب عليه لم يجب عليه قضاؤه، وبقي الاعتكاف على أصله مضمونا.

                                                                                                                                                                                        وإن كان نذر صومه وألا يجعله في واجب- لم يجزئه إن اعتكف خمسة من رمضان; لأنه كان مضمونا، فإن صح في آخره بقي على حكم الاعتكاف حتى يقضي خمسة من شوال، فإن صح من أوله كان بالخيار بين أن يقطع ويستأنف جميع اعتكافه أو يتمادى على اعتكافه، ثم يقضي خمسا من شوال; لأن عليه في بقائه على الاعتكاف حتى ينقضي رمضان ضررا، وتلحقه فيه مشقة، فجاز له أن يقطع; قياسا على من فاته الحج أو أحصر بعدو أنه لا يلزمهما البقاء على الإحرام لقابل; لمشقة ذلك وإن كانا مختلفين في صفة الإحلال.

                                                                                                                                                                                        وإن صح في [ ص: 849 ] بعض يوم فرجع إلى معتكفه- لم يحتسب به. وإن صح عند الغروب ورجع حينئذ احتسب به. وإن صح قبل طلوع الفجر كان له أن يحتسب عند مالك. وقال سحنون: لا يحتسب به. وهو أبين; لأنه قد بقي من نذره اعتكاف ليلة ذلك اليوم، فإن زاد ليلة عند انقضاء اعتكافه أجزأه للاختلاف في ذلك.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب فيمن أفطر ناسيا: مضى على اعتكافه، ولم يجب عليه قضاء ذلك اليوم لا بصيام ولا باعتكاف; لأنه تطوع، إلا أن يكون اعتكافه من نذر واجب، فيجب عليه قضاء ذلك اليوم بصيام أو اعتكاف، ويصله بأيامه التي نذر، فإن أخره استأنف. [ ص: 850 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية