الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في إخراج الولاة الزكاة ، ومن أخرج زكاة ماله دون الإمام

                                                                                                                                                                                        تفرقة زكاة العين والحرث والماشية إلى أئمة العدل وإلى من أقاموه لها دون أصحاب الأموال . والأصل في ذلك قول الله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [التوبة : 103] . فعم ولم يخص ، وقوله في آية الصدقات : والعاملين عليها [التوبة : 61] ، وهم جباتها . وثبتت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يبعث السعاة والمصدقين لزكاة الحبوب والمواشي . وبعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن ، فقال معاذ لأهل اليمن : "ائتوني بخميص أو لبيس ، مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم ، وأنفع لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة" . وبعث ابن اللتبية على الصدقة .

                                                                                                                                                                                        وأما العين فالشأن فيها أن يدفع الرجل صدقته إلى الإمام ، ولا يبعث فيها ؛ لأن الوقت الذي تحل فيه زكاة العين مختلف ، وليس كزكاة الماشية .

                                                                                                                                                                                        وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ، فهاتوا صدقة الرقة" الحديث . [ ص: 1039 ]

                                                                                                                                                                                        وهذا حديث صحيح ذكره الترمذي . فاقتضى قوله : "هاتوا" دفعها إليه . فإن كان قوم ليس لهم وال ، أو كان غير عدل ، كان إنفاذها إلى أصحاب الأموال ويقومون فيها مقام الإمام . فإن مكنوا منها الإمام إذا كان غير عدل مع القدرة على إخفائها عنه لم تجزئ ، ووجب إعادتها .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا أراد أصحابها إنفاذها مع وجود أئمة العدل ، أو مكنوا منها الإمام إذا كان غير عدل من غير إكراه مع القدرة على إخفائها عنه ، هل يجزئ أم لا ؟ فإن كان لهم إمام عدل وشغل عن البعثة فيها وعن النظر في إخراجها كان لأصحاب الأموال أن يخرجوا زكاة العين والحرث ، وينفذوها إلى مستحقيها ، ولا يحبسوها عنهم ، ولا يخرجوا زكاة الماشية وينتظروا بها الإمام . فإن هم أنفذوها ولم ينتظروه أجزأت ، وفيها اختلاف فقال القاضي أبو الحسن ابن القصار فيمن أخرج زكاته مع القدرة ووجود الإمام العدل : أجزأت في الأموال الباطنة ، ولم تجزئهم في الأموال الظاهرة ، يريد بالباطنة : العين ، وبالظاهرة : الحرث والماشية .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد : لا أحب ذلك له ، فإن فعل وخفي له ذلك عن الإمام فإنها تجزئ أي صنف كانت .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا لم يعلم ذلك إلا من قوله . فقال ابن القاسم : لا يقبل قوله . وقال أشهب : يقبل قوله إذا كان من أهل الصلاح والعدل ، ولا يقبل قوله [ ص: 1040 ] إذا كان من أهل التهم .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه - : أما إذا كان من أهل التهم ، ولم يعلم ذلك إلا بقوله ، لم يصدق . ولا يختلف في ذلك ، وإنما الخلاف إذا كان مخرجها عدلا أو غير عدل ، فأخرجها ببينة .

                                                                                                                                                                                        فوجه منع الإجزاء ورود النص بجعل ذلك إلى الأئمة ، ولأن فيه حماية وحفظا للزكوات ، وحسما لدخول التأويل ، ولئلا يلحق من ليس بعدل بالعدل ، ووجه الإجزاء : لأن جعل ذلك للأئمة لم يكن لحق لهم فيها ، وإنما هم فيها كالوكلاء يوصلونها إلى من يستحقها . فمن وصلها إليهم أجزأتهم ؛ لأن من له حق قد أخذه . والباطنة والظاهرة في ذلك سواء .

                                                                                                                                                                                        وإذا تخلف السعاة لشغل أو لأمر لم يقصدوا فيه إلى تضييع الزكاة ، فأخرج رجل زكاة ماشيته أجزأت . وقال عبد الملك بن الماجشون في كتاب محمد : لا تجزئ . والأول أحسن . فإذا أجزأت على ما قاله ابن القصار إذا لم يتخلف ؛ لأنها من الأموال الظاهرة ، كان إذا تخلف أحرى في الإجزاء . والقياس أن يخرجها ابتداء من غير كراهية قياسا على زكاة الحرث ، فكلتا الزكاتين كان يخرج إليها العمال . وأيضا فإن الزكاة يتعلق بها حق الأصناف الذين سماهم الله -عز وجل- في كتابه ، والإمام وكيل لهم ، فليس شغل الوكيل مما يمنع من له حق من قبض حقه ؛ لأن في ذلك ضررا لهم . [ ص: 1041 ]

                                                                                                                                                                                        وأما إذا كان الإمام غير عدل ، فدفعت إليه الزكاة كرها ، ولم يقدر على إخفائها ، فإنها تجزئه على قوله في المدونة ؛ لأنه قال : يؤخرها حتى يدفعها إليه . وقال مالك في كتاب محمد وفي المستخرجة : تجزئه ، ثم رجع فقال : لا تجزئه ، وقال أشهب : تجزئه ، وإن كان الآخذ لها يأكلها . والأحوط أن يعيد .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه - : إذا كانت الزكاة غير متعلقة بالذمة كالعين ، والحرث ، وما إليه تمييزه ، فميز زكاته ثم أخذت ، أجزأت عنه ؛ لأنه بنفس تمييزها برئ منها ، وهي وديعة . ولو ضاعت لم يضمنها ، وإن أخذت من جملة ماله قبل أن يميزها لم تجزئه وزكى عن الباقي ، إلا أن يكون الباقي دون نصاب ؛ لأن الظلم على جميعه .

                                                                                                                                                                                        وكذلك الماشية تجب فيها جذعة أو ثنية وهي في الغنم ، فإن ميزها كانت كالعين وأجزأت ، وإن أخذت من الجملة قبل التمييز لم تجزئه وزكى عن الباقي ، إلا أن يكون الباقي دون نصاب ، وإن كانت في الذمة ، كالشاة عن خمس من الإبل وابنة مخاض عن خمس وعشرين ، وليس فيها بنت مخاض ، فأجبر على أن أخذت من ذمته ، لم تجزئه ؛ لأن الغصب على الذمة ليس على الزكاة . [ ص: 1042 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية