باب فيمن وقف بعرفة  مغمى عليه ، أو مر بعرفة  وهو لا يعرفها ، أو يعرفها ولم يقف بها ، ومن أخطأ العدد فوقف بعد يوم عرفة  ، أو أتى مفاوتا وعليه صلاة 
واختلف في وقوف عرفة   لثلاثة : 
أحدها : هل يجزئه إذا كان مغمى عليه ؟ والثاني : إذا كان في عقله هل يجزئه كونه بها وإن لم يعرفها أو حتى يعرفها ؟ وإن لم يقف أو حتى يقف ؟ والثالث : هل يجزئه وقوف النهار ؟ 
فقال  مالك  فيمن أتي به إلى عرفة  وهو مغمى عليه ، ووقفوا به على حاله تلك : أنه يجزئه . وروى عنه  مطرف   وابن الماجشون  في كتاب  ابن حبيب   : إن أغمي عليه بعرفة  قبل الزوال لم يجزئه ، وإن أغمي عليه بعد الزوال ، فإن كان ذلك قبل أن يقف أجزأه ، وإن اتصل به الإغماء حتى دفع به ، وليس عليه أن يقف ثانيا إن أفاق من بقية ليلته . قالا : وهو كالذي يغمى عليه في رمضان قبل الفجر ، فلا يجزئه . وإن طلع الفجر وهو في عقله ، ثم أغمي عليه بعد ذلك لم يضره . 
وقال  مالك  في مختصر ما ليس في المختصر : إن وقف مفيقا ثم أغمي عليه أجزأه ، وإن وقف مغمى عليه فلم يفق حتى طلع الفجر لم يجزئه .  [ ص: 1210 ] 
وقال  أشهب  في مدونته : ووقف في المدونة فيمن مر بعرفة  ولم يقف بها  ، فلم يقل : إنه يجزئه أو لا يجزئه . وعلى قوله في المغمى عليه أنه يجزئه ، ولو لم يكن في عقله - يجزئ هذا وجوده من الوقوف . 
وقال  مالك  في كتاب محمد  فيمن دفع إلى عرفة  قبل غروب الشمس ، ثم لم يخرج منها حتى غربت الشمس   : أنه يجزئه . وإن خرج قبل أن تغرب الشمس ، ولم يرجع حتى طلع الفجر لم يجزئه ، وهذا إنما حصل منه المرور بغير نية الوقوف ؛ لأنه على نية الانصراف . 
وقال محمد  فيمن مر بعرفة  ليلا ، وشقها وهو يعرفها ، ولم ينزل بها : أنه يجزئه إذا نوى به الوقوف ، وذكر الله . ولو كان مروره وهو لا يعرفها ، ولم ينزل بها لم يجزئ ، وبطل حجه . يريد : بعدم النية ، وهذا أحسنها ، فلا يجزئه إلا أن ينوي الوقوف ، ويذكر الله تعالى ، عرفها أو لم يعرفها . وإن لم ينو الوقوف ، أو نواه ولم يذكر الله لم يجزئه . 
وقد أوجب الله تعالى وقوف عرفة  ، وأبان النبي - صلى الله عليه وسلم - صفته ، فعلم أن الفرض ليس بأن يمضي لذلك الوضع فيمشي فيه ، أو ينام فيه ثم ينصرف . 
وكذلك أرى في المغمى عليه أنه لا يجزئه إذا زالت الشمس وهو مغمى عليه ، أو كان في عقله ثم أغمي عليه قبل أن يقف ؛ لأن ذلك يرجع إلى أن الفرض وجود جسمه لا غير ذلك . والمغمى عليه أبين ألا يجزئه ؛ لأنه مخاطب  [ ص: 1211 ] أن يتقرب إلى الله بالوقوف ، والمغمى عليه غير متقرب إلى الله . 
وقوله الآخر : إذا كان في عقله ووقف أحسن . وقوله في المغمى عليه عند  ابن حبيب  دليل أن الوقوف بالنهار يجزئ ؛ لأنه بمنزلة الصائم في طلوع الفجر ، ولو كان الفرض الليل دون النهار لقال : إذا كان في عقله بعد غروب الشمس أجزأه ، وإن غربت وهو مغمى عليه لم يجزئه . 
وقال  يحيى بن عمر  في أهل الموسم ينزل بهم ما نزل بالناس سنة العلوي ، وهروبهم من عرفة  قبل أن يتموا الوقوف : أنه يجزئهم ولا دم عليهم ، إنما يصح على القول : أن وقوف النهار دون الليل يجزئ . 
وفي  الترمذي   :  "أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمزدلفة  ، فقال : يا رسول الله ، جئت من جبلي طيئ  ، ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، هل لي من حج ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من شهد صلاتنا هذه ، ووقف بها معنا حتى يدفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة  ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه وقضى تفثه"  . وهو حديث صحيح . 
وأيضا فلا يشبه أن يكون الفرض من غروب الشمس إلى ما بعد ، ويكون ما قبله من عند الزوال إلى غروب الشمس تطوعا ، ويكلف أمته الوقوف من الزوال إلى الغروب ، مع كثرة ما فيه من المشقة فيما لم يفرض عليهم ، ثم يكون  [ ص: 1212 ] حظه من الفرض لما دخل بغروب الشمس الانصراف إلى ما سواه ؛ لأن الأحاديث إنما جاءت : أنه لما غربت الشمس دفع ولم يقف . ويكون الفرض المشي حتى يحل . يخرج من الحل . 
والوقوف عبادة يؤتى بها على صفة ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -  ، وقد أتى الناس يبين لهم معالم دينهم ، وقد علموا أنه فرض عليهم الوقوف بعرفة  ، وأتوا لامتثال ما فرض عليهم ، وهو المبين لأمته . ولو كان في تطوع والفرض من غروب الشمس لبينه ؛ لأنه ليس يفهم من مجرد فعله أنه كان في تطوع ، بل المفهوم أنهم كانوا في امتثال ما أمروا به وما أتوا إليه ، وقد احتج في القول الأول : أن الفرض في الليل دون النهار بأشياء ، منها : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :  "الحج عرفة  ، من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج"  . وبقوله - صلى الله عليه وسلم - :  "من أفاض من عرفات  قبل الصبح فقد تم حجه"  . وبقوله - صلى الله عليه وسلم - :  "من وقف بعرفة  بليل فقد أدرك ، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج"  . معلق الفوات بالليل والاحتجاج بهذا ليس بالبين ؛ لأن الوقوف له أول ، وهو من الزوال ،  [ ص: 1213 ] وآخر وهو ما لم يطلع الفجر . 
وإنما تضمنت هذه الأحاديث معرفة آخر الوقت ، وقد كان وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في أول الوقت  ، فأخبرهم : أنه من فاته الوقوف معه لم يفته الحج ، وأن الوقوف باق إلى طلوع الفجر ، وهو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - :  "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدرك العصر"  . وأول العصر إذا دخلت القامة الثانية ، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:  "فقد أدرك الحج" ، ولفظة الإدراك إنما يعتد بها في الغالب عما يخشى فواته ، ويدل على ذلك : الإجماع على أنه لا يجوز أن يتعمد الناس باجتماعهم للوقوف قبل الفجر ، ويدعون النهار . واحتج للقول الأول في ذلك أيضا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لضعفة أهله في الدفع من المزدلفة بليل ، ولم يأذن بذلك من عرفة . ولو كان النهار فرضا لأذن لهم . وهذا غير صحيح لوجهين : 
أحدهما : أنهم استأذنوه في جمع ، ولم يستأذنوه بعرفة  ، فمنعهم ، فيعلم افتراق الحكمين . 
والثاني : أنهم لو استأذنوه فمنعهم لأمكن أن يكون ذلك لأنهم في أفضل يوم وأفضل الساعات ، ولما يرجى من الغفران والرحمة ، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :  "ما رئي الشيطان يوما هو أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم  [ ص: 1214 ] عرفة"   . وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام ، وليس المبيت بالمزدلفة  كذلك . 
والثالث : أنه لا مضرة عليهن في الدفع من عرفة باتساع الموضع ، وتدركهن المضرة إذا دفعن من المزدلفة ؛ لازدحام الناس عند الجمرة . 
ولم أر نصا في القدر الذي يجزئ من الذكر ، إلا ما قاله محمد   : إذا ذكر الله . ولم يزد على هذا ، فظاهر قوله : أنه يجزئه من ذلك ما قل . وقد اختلف في مثل هذا في الخطبة في الجمعة ، هل يكفي من ذلك ما قل ، أو لا يجزئ إلا ما له بال وقدر ؟ 
وقال  محمد بن المواز  فيمن أتى عرفة  مقاربا للفجر وهو ناس لصلاة ، فإن صلى فاته الوقوف وطلع الفجر وبطل ، فقال : إن كان قريبا من جبال عرفة  وقف ثم صلى . وإن كان بعيدا بدأ بالصلاة ، وإن فاته الحج ، قال محمد بن عبد الحكم   : إن كان من أهل مكة   وما حولها بدأ بالصلاة ، وإن كان من أهل الآفاق مضى إلى عرفة  فوقف وصلى . 
فغلب أحد الضررين ، وأرى إن ذكر وقد دخل أول عرفة  فصار إلى الحل بدأ بالصلاة ، وأجزأه المرور من الوقوف على القول أنه إذا مر بها مارا ولم يقف أنه يجزئه . 
وعلى القول : أنه لا يجزئه المرور من الوقوف ؛ يختلف بأي ذلك يبدأ ؟ وأرى أن يبدأ بالوقوف ؛ لأنه قد تزاحم الفرضان ، فيبتدئ بما يدركه بتأخيره  [ ص: 1215 ] ضرر ، وهو الحج ، ثم يؤخر الصلاة . ولأنه قادر على أن يأتي بها بفور الوقوف من غير تراخ ، فكان ذلك أولى من تأخير قربة لا يقدر على أن يوفي لها إلا العام . ومثله لو ذكر الصلاة قبل أن يبلغ عرفة  ، وكان متى اشتغل بها فاته الوقوف ، فإنه يتمادى ويقف ، ثم يقضي الصلاة ، وعلى القول الآخر : يتمادى فإذا دخل أول عرفة  صلى ، وأجزأه عن الوقوف . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					