الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في الجزية ، ومن لا يصح أن تقبل منه ، ومن لا يخاطب بقتال ، ولا بجزية

                                                                                                                                                                                        الكفار في قتالهم وقبول الجزية منهم على ثلاثة أصناف : صنف يتوجه خطابهم بثلاثة أشياء : بالدخول في الإسلام ، أو الجزية عن يد ، أو القتال ، وهم أهل الكتاب عربا كانوا أو غيرهم .

                                                                                                                                                                                        وصنف يتوجه خطابهم بوجهين : بالإسلام أو القتال .

                                                                                                                                                                                        واختلف في قبول الجزية منهم ، وهم : المشركون وعبدة الأوثان والمجوس ما سوى الحبش والترك .

                                                                                                                                                                                        وصنف يدعون إلى الإسلام .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا عاندوا ، هل يتركون أو يقاتلون ؟ وهم الحبش والترك .

                                                                                                                                                                                        والأصل في أهل الكتاب قول الله -عز وجل- : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [التوبة : 29] .

                                                                                                                                                                                        وفي قتال عبدة الأوثان والمجوس قوله : جاهد الكفار والمنافقين [التوبة : 73] .

                                                                                                                                                                                        وقوله تعالى : فاقتلوا المشركين [التوبة : 5] . [ ص: 1448 ]

                                                                                                                                                                                        وفي قبول الجزية منهم ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                        فقال مالك : تقبل عربا كانوا أو غيرهم .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم : الأمم كلها إذا رضوا بالجزية قبلت منهم .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن الماجشون : لا تقبل .

                                                                                                                                                                                        قال ابن وهب : لا تقبل من مجوس العرب ، وتقبل من غيرهم ، قال : وقد قبلها النبي - صلى الله عليه وسلم - من مجوس هجر ، ولم يقبلها من غيرهم .

                                                                                                                                                                                        ورأى ابن الماجشون أن قول الله -عز وجل- : من الذين أوتوا الكتاب [التوبة : 29] .

                                                                                                                                                                                        أنه شرط ، وأن ما عدا الشرط بخلافه .

                                                                                                                                                                                        وقول مالك أحسن ؛ لورود الأخبار الصحاح : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها من العرب وغيرهم ، وفعله الصحابة بعده .

                                                                                                                                                                                        فأخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها من مجوس هجر .

                                                                                                                                                                                        وعن المغيرة - رضي الله عنه - أنه قال في قتالهم لكسرى : إن نبينا أمرنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده ، أو تؤدوا الجزية . [ ص: 1449 ]

                                                                                                                                                                                        وفي كتاب مسلم عن بريدة ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على سرية أو جيش قال : "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيتها أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام ، فإن أبوا فاسألهم الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، وادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين . . ." الحديث . فدخل في هذا العرب ؛ لأنهم المشركون ، وهم أكثر من كان يقاتل .

                                                                                                                                                                                        وفي الموطأ قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - لعمر - رضي الله عنه - في المجوس : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" .

                                                                                                                                                                                        وفيه دليل : أن قوله هذا كان بعد نزول آية الجزية ، وأنهم علموا الحكم في أهل الكتاب ، فأمرهم أن يمضوا في هؤلاء على سنة أولئك . وأخذها عثمان - رضي الله عنه - من مجوس البربر .

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في استرقاق العرب ، فأجازه ابن القاسم ، ويجوز على قول مالك ؛ لأنهما يريان أخذ الجزية منهم .

                                                                                                                                                                                        ومن أجاز أن يبقى على الكفر مع الجزية جاز أن يسترق مع الكفر ، وعلى قول ابن وهب : لا يسترقون إن أسلموا ، وإلا قتلوا . [ ص: 1450 ]

                                                                                                                                                                                        وهو قول مالك والشافعي ، وأبي حنيفة .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك : الفرازنة -وهم جنس من الحبشة- لا يقاتلون حتى يدعوا .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في الترك مثل ذلك ، فأباح قتالهما إذا دعوا فأبوا .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في كتاب ابن شعبان : لا تقاتل الحبشة ، إلا أن يخرجوا من غير ظلم . وكذلك الترك .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم : وأخبرني من أثق به من أهل المدينة عن حرملة بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "اتركوا الحبشة ما تركوكم" .

                                                                                                                                                                                        وقال أبو إسحاق ابن شعبان : اتركوا الرابضين ما تركوكم ؛ الحبشة والترك .

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون : قيل لمالك : أبلغك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "ذروا الحبشة ما وذروكم ؟ " . قال : أما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ، ولكن لم أزل أسمع أن ذلك يقال ، ولم يزل الناس يغزون الروم وغيرهم ، وتركوا هؤلاء ، فما أراهم تركوا قتالهم إلا لأمر . [ ص: 1451 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية