الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فيمن حلف لا أكلم فلانا أو ليكلمنه أو إن أخبره أو ليخبرنه; فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في المدونة، فيمن حلف لا أكلم فلانا، فكتب إليه، أو أرسل إليه رسولا; يحنث .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد : لا حنث عليه فيهما; يعني الكتاب والرسول، وروى ابن القاسم وأشهب ، عن مالك : أنه يحنث في الكتاب دون الرسول .

                                                                                                                                                                                        وكل هذا الاختلاف مع عدم النية.

                                                                                                                                                                                        واختلف بعد القول أنه حانث إن ادعى النية، وأنه أراد ألا يشافهه على ثلاثة أقوال: فقال في المدونة: له نيته، ثم رجع، فقال: لا أنويه في الكتاب . وقال محمد : وقد قال قبل ذلك: لا نية له، ثم رجع إلى إن نواه في الرسول.

                                                                                                                                                                                        فلم يحنثه أشهب مع عدم النية، وحمله على موجب اللفظ; لأنه لم يكلمه في الحقيقة، وإنما كلم الرسول، أو كتب أحرفا، صورها يفهم منها مراده.

                                                                                                                                                                                        ورأى مالك أن القصد المقاطعة والمهاجرة، ليس الكلام خاصة، فإذا كاتبه أو راسله، لم تكن مهاجرة تامة، ثم لم ينوه; لأنه لم يحنثه بمجرد اليمين، وإنما حنث بالمعتاد، وأن القصد المقاطعة، فكأنه ادعى ما تكذبه فيه العادة، وادعى ما لا يشبه. [ ص: 1731 ]

                                                                                                                                                                                        وصدقه مرة; لأن من الناس من يقصد هجرانا دون هجران، فيكتب ويراسل ويقف عن المشافهة وهذا أحسن، ولا فرق بين الكتاب والرسول.

                                                                                                                                                                                        والقول أن الذي في الكتاب لفظه غير صحيح; لأن الإنسان يكتب ولا ينطق، ولو نطق ما زاد معنى، ولصار ذلك المكتوب كلامه.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب : وإن وصل الكتاب إلى المحلوف عليه، فقرأ عنوانه; حنث وإن لم يقرأه، وأقام عنده سنين; لم يحنث ولا وجه لهذا; لأنه إذا حنث بالمكاتبة لأنها ضرب من المواصلة، وترفع بعض المقاطعة، فذلك يقع بنفس وصول الكتاب من الحالف، وإن لم يقرأ. وإن كتب المحلوف عليه إلى المحلوف، فلم يقبل كتابه; لم يحنث.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قبله وقرأه: فقال ابن القاسم : يحنث. وقال أيضا، لا يحنث.

                                                                                                                                                                                        وقاله أشهب وهو أحسن; لأن الكلام من المحلوف عليه لا يحنث به الحالف، وكذلك لو اجتمع معه، وكلمه ولم يجاوبه; لأنه إنما حلف لا كلمت فلانا ، ولم يحلف لا كلمني.

                                                                                                                                                                                        ولو حلف ليكلمنه فكتب إليه، أو أرسل إليه رسولا; لم يبر; لأنه لم يكلمه. وهذا مما يبين الأول إذا حلف لا أكلمه فكتب إليه أنه لم يحنث بمجرد اليمين.

                                                                                                                                                                                        ولو كان الكتاب ككلامه لبر به إذا حلف ليكلمنه، وإن حلف ليعلمنه أو [ ص: 1732 ] ليخبرنه، فإنه يبر بالكتاب والرسول.

                                                                                                                                                                                        وإن حلف لا أعلمه، أو لا أخبره، فكتب إليه، أو أرسل إليه; حنث.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم ، فيمن حلف لرجل إن علم كذا وكذا، ليخبرنه أو ليعلمنه، فعلماه جميعا، فلم يعلمه: فهو حانث; يريد: إذا لم يعلم الحالف بعلم المحلوف عليه، وإن علم لم يحنث، إلا على من راعى الألفاظ.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك ، في رجل أسر إلى رجل سرا، واستحلفه أن لا يخابر به أحدا، فأخبر المحلوف له رجلا بذلك السر، فانطلق ذلك الرجل، فأخبر الحالف، فقال الحالف: أخبرني به، وما ظننت أنه أخبر به أحدا غيري. قال: فهو حانث، وهذا صواب; لأن الإنسان يقصد أن يسر أمرا لجماعة، ولا يخبر كل واحد منهم بما اطلع عليه الآخر. [ ص: 1733 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية