الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في اختلاف التحريم بالعقد والوطء]

                                                                                                                                                                                        وما كانت الحرمة تقع فيه بالوطء، ولا يحرم بالعقد؛ فإنه يحرم إذا كان النكاح صحيحا والوطء جائز، ويحرم إذا كان النكاح صحيحا والوطء فاسد إذا أصابها وهي حائض أو معتكفة أو محرمة أو صائمة في رمضان، أو كان الزوج محرما أو معتكفا أو صائما في رمضان، وكذلك إذا كان العقد فاسدا، والوطء مما يلحق فيه النسب مثل أن يتزوج بولاية الإسلام أو باشرت العقد من غير ولي، فكل هذا تقع به الحرمة على الأب والابن، ويحرم على ذلك الزوج ابنة تلك الزوجة؛ لأن دخوله بالأم كالصحيح، إما لأنه لا يفسخ، أو لأنه يلحق فيه النسب وإن فسخ.

                                                                                                                                                                                        وإن تزوج البنت فلم يدخل بها حتى تزوج الأم ودخل بها، فإن لم يعلم [ ص: 2074 ] أنها أم زوجته أو علم، وجهل التحريم- فسخ نكاحها، وحرمت للأبد. وإن علم الوجهين جميعا كان زنى.

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في وقوع الحرمة بالزنا: فقال مالك في "الموطأ" فيمن زنا بامرأة: له أن ينكح ابنتها، وينكحها ابنه إن شاء. قال: وإنما يحرم ما أصيب بالحلال، أو على وجه الحلال.

                                                                                                                                                                                        وقال في "المدونة": يكره ذلك. وقال في "كتاب ابن حبيب": يحرم. قال: ورجع مالك عما في "الموطأ"، وأفتى دهره حتى مات أنه يحرم.

                                                                                                                                                                                        فعلى القول الأول إن زنى بامرأة- لم تحرم على ابنه، ولا على أبيه وإن زنى بها وهي زوجة لابنه - جاز أن تبقى في عصمته، ويجوز له هو أن يتزوج أمها أو ابنتها.

                                                                                                                                                                                        وإن زنى بها وأمها، وابنتها في عصمته - جاز له أن يتمادى على الزوجية.

                                                                                                                                                                                        وعلى قوله في "المدونة" يكره جميع ذلك من غير تحريم، وإن هو تزوج ثم فارق قبل الدخول أو فارق من كانت تحته بوجه صحيح - كان عليه نصف الصداق. وعلى القول الثالث- يجبر على الفراق، ولا شيء عليه من الصداق إذا كان الزنا قبل النكاح. [ ص: 2075 ]

                                                                                                                                                                                        فإن تقدم النكاح ثم وطئها الابن أو الأب سقط الصداق، وإن وطئ هو ابنة زوجته أو أمها- كان الصداق مختلفا فيه؛ لأن الفراق من سببه، بخلاف أن يكون ذلك من سبب غيره. فرأى مالك مرة أن التحريم معلل ألا يختبر الرجل وابنه المرأة الواحدة، ولا الرجل الواحد المرأة وابنتها، ذلك يستوي فيه الحلال والحرام.

                                                                                                                                                                                        ورأى مرة أنه شرع غير معلل؛ للاتفاق أن زوجة الابن والأب تحرم بالعقد، فلو كانت العلة اختبارهما للفرج الواحد- لم يقع التحريم إلا بالدخول، وكذلك الرجل الواحد تحرم عليه المرأة بعقده على ابنتها، ولا تحرم ابنتها بالعقد على الأم، ولا تحرم إلا بالدخول، فرأى بهذا أنه شرع، وأشكل عنده الأمر مرة فلم يوقع تحريمها؛ لإمكان أن يكون شرعا، ولا أباح؛ لإمكان أن يكون معللا.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الرجل يريد زوجته في الظلام فتقع يده على ابنته فيلتذ بها أو يصيبها، فذكر عن الشيخ أبي الحسن والشيخ أبي بكر أنهما قالا: إن زوجته - وهي أمها- تحرم عليه، وأنها نزلت بالشيخ أبي محمد بن التبان، ففارق زوجته.

                                                                                                                                                                                        وذكر عن الشيخ أبي محمد بن أبي زيد أنه اختلف قوله فيها. وعن الشيخ [ ص: 2076 ] أبي عمران أنه قال: لا نعلم خلافا فيمن وطئ بوجه شبهة أنها تحرم، إلا بما روى يحيى عن سحنون فيمن مد يده إلى زوجته في الليل، فوقعت يده على ابنته، فوطئها غلطا: أنها لا تحرم زوجته عليه.

                                                                                                                                                                                        وروى نحو ذلك يزيد بن بشر عن الليث قال: وكان بعض أهل العلم يقفون عن إطلاق تحليل أو تحريم، فأما من حرم الأم به فإنه أجرى الابنة على حكم الربيبة.

                                                                                                                                                                                        ومن لم يحرم يقول: لأنها ابنته لا ربيبته، وإنما ورد تحريم إحداهما بالأخرى إذا كانت ممن يصح للواطئ انعقاد النكاح فيهما: الربيبة والأم، وهذه ابنته لا يصح فيها انعقاد نكاح بحال، والتحريم في ذلك غير معلل. وعلى هذا لو غلط بجدته لأمه وعنده ابنة خالته- فتحرم زوجته على القول الأول؛ لأنها عنده من أمهات نسائه، ولا تحرم على القول الآخر؛ لأن الجدة لا يقع عليها أنها من نسائه بحال، ولم تكن ممن ينعقد له فيها نكاح، فإذا أصابها بوجه شبهة لم يقع على ابنتها- وهي الخالة- اسم ربيبة، فأحرى ألا يقع ذلك على ابنتها، وهي زوجته، ولو أصاب خالته بوجه شبهة، لم [ ص: 2077 ] تحرم على أبيه؛ لأنها لم تكن ممن ينعقد له فيها نكاح، فلم تدخل في قوله تعالى: وحلائل أبنائكم

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف قول مالك في هذا الأصل، فقال مرة فيمن زنا بأم زوجته، أو بزوجة ابنه، أو أبيه، يقع بها التحريم، فرأى أنه شرع معلل وأن العلة الاختبار لهما، أو منهما لامرأة ولم يوقع التحريم مرة. ورأى أنه غير معلل. [ ص: 2078 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية