[ ص: 255 ] وكذلك ما ينقله بعضهم عن يوسف  أنه حل سراويله ، وأنه رأى صورة يعقوب وغير ذلك  ، كل ذلك من الأحاديث التي غالبها أن يكون من كذب اليهود . فإن الله تعالى قال : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء   . فقد أخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء فلم يفعل سوءا ولا فحشاء ، فإن ما صرفه الله عنه انصرف عنه . ولو كان يوسف  قد أذنب لتاب ، فإن الله لم يذكر ذنب نبي إلا مع التوبة ، ولم يذكر عن يوسف  توبة ، فعلم أنه لم يذنب في هذه القضية أصلا ، والله أعلم . إنما أخبر عنه بالهم وقد تركه لله فهو مما أثابه الله عليه . 
وفي الصحيحين عن  ابن عباس  عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال : "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، فإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله [له عنده حسنة كاملة ، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له] سيئة واحدة"  . 
فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أن من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة   . وفي الحديث الآخر قال :  "يقول الله :  [ ص: 256 ] 
اكتبوها له حسنة فإنما تركها من جرائي"  . أي : من أجلي . فالعبد إذا هم بالسيئة وتركها لله  كان تركها لله حسنة كاملة ، ولم يكن عليه إثم بذلك الهم . 
فيوسف  الصديق لم يفعل قط سيئة ، بل هم وترك ما هم به لما رأى برهان ربه ، فكتب الله له حسنة كاملة . 
وبرهان ربه ما تبين له به ما يوجب الترك ، قال الله تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون  وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون   . 
فالشيطان إذا زين المعصية يجعل في القلب ظلمة ، ويضعف نور الإيمان ، ولهذا سماه طائفا ، أي : يطيف بالقلب مثل ما يطيف الخيال بالنائم ، ويغيب عن القلب حينئذ من أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ما يناقض ذلك ، فإذا كان العبد متقيا لله أمده الله تعالى بنور الإيمان ، فذكر ما في الذنب من عذاب الله وسخطه ، وما يفوته به من كرامة الله وثوابه . 
والبرهان ببصيرة القلب ، فيوسف  الصديق أبصر برهان ربه بقلبه ، فترك ما هم به  كل ذلك . 
وأما ما يذكر أنه تمثل له يعقوب  في صورة جبريل  وأنه عض يده ، أو أن جبريل  أو يعقوب  مسح على ظهره ، أو رأى أنه مكتوب  [ ص: 257 ] فكل هذا لا يجوز لأحد أن يصدق بشيء منه ، بل هذا مما يعلم كذبه من وجوه متعددة ، فإن من لم يتنبه إلا بهذا يكون من أفجر الناس ، فكيف يقال لمن وصفه الله بالعفة والتقوى ما لا يوصف به إلا من هو أفجر الناس؟ 
قال تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين   . وما ذكر يقتضي أنه لم يصرف عنه إلا الجماع ، وإلا فقد فعل مقدماته وحرص عليه ، وهذا كالفاعل ، ولو حصل لمشرك دون هذا لامتنع من الفاحشة بدون ذلك ، بخلاف امتناع يوسف  ، مع كمال الدواعي فإن هذا لا يعرف لغيره ، فإن التي راودته سيدته التي تملكه ، وقد استعانت عليه بعد ذلك بالنساء وحبسوه على ذلك بضع سنين ، وهو شاب غريب ، وزوجها لم ينهها ولم يعاقبها ، ولم ينصر يوسف  عليها ، وهو في بلد غربة ليس هناك أهله الذين يستحي منهم ، بل لو أتاها لم يعلم أحد من الناس . 
وما يذكر من حكاية مسلم بن يسار  أنه رأى يوسف  ، قال : "أنا يوسف  الذي هممت ، وأنت  مسلم  الذي لم تهم! " .  فمسلم  رآه بحسب حاله ، وفيه دليل على صلاح  مسلم  ، وإلا فأين حال هذا من حال يوسف؟  ، تلك امرأة بدوية ظلمته في برية ولا حكم لها عليه ، وهو شيخ كثير العبادة ، فدواعي الزنا منصرفة عنه ، وموانعه موجودة ، بخلاف يوسف;  فإن دواعي البشرية كانت تامة في حقه موجودة ،  [ ص: 258 ] وصوارف السوء كانت منتفية ، وإنما صرف عنه السوء والفحشاء بإخلاصه ، وترك ما هم به لما رأى برهان ربه . وهمه الذي تركه كتب له به حسنات كاملة ، ولو تساوت القضيتان لكان هو أفضل ، فكيف وبينهما من الفرقان ما لا يخفى إلا على العميان؟ 
وكثير من المؤمنين يطلب منه الفاحشة ، ويراوده من يراوده ويمتنع ، لكن لا تجتمع معه هذه الأمور ولا يكون معهودا هذا الضمير ، ولا يصبر على حبس بضع سنين يختار ذلك على فعل ما طلب منه في خلوة عن الوطء لم يمتنع عن مقدماته ، ويوسف  صرف الله عنه السوء والفحشاء فلم يفعل كبيرة ولا صغيرة ، ولا أمرته نفسه بسوء  ، بل كان ممن رحم الله ، فلم تكن نفسه أمارة بسوء ، بل امرأة العزيز هي التي كانت نفسها أمارة بالسوء; فإنها راودته ، وقدت القميص ، وكذبت عليه ، واستعانت بالنساء ثم حبسته ، ولهذا قالت : أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين  ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب  أي : في مغيبته عني . 
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن قوله : وما أبرئ نفسي  هو من تمام كلام امرأة العزيز ، وكما دل على ذلك القرآن في غير موضع .  [ ص: 259 ] 
ومن قال إنه من كلام يوسف  فقد قال باطلا ، والنقولات في ذلك عن  ابن عباس  ضعيفة بل موضوعة . ولو قدر أنه قال ذلك فبعض ما يخبره هذا  وعبد الله بن عمرو  من الإسرائيليات كله مما سمعوه من أهل الكتاب ، فلا يجوز الاحتجاج به . 
والصاحب والتابع فقد ينقل عنهم ما لم يتبين [له أنه كذب ، فإن تبين] لغيره أنه كذب لم يجز نقله إلا على وجه التكذيب ، كما قال كثير منهم : إن الذبيح إسحاق  ، ودلائل الكتاب والسنة وغير ذلك أنه إسماعيل  ، وأمثال ذلك . 
وكثير من السلف يروي أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إما مسندة وإما مرسلة ، فإن كان لم يعلم أنها كذب فيجوز له روايتها ، وإن كان غيره ممن علم أنها كذب لا يجوز له روايتها . وعامة ما ينقله سلفنا من الإسرائيليات إذا لم يكن عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهو دون المراسيل عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - بكثير; فإن أولئك النقلة من أهل الكتاب ، والمدة طويلة ، وقد علم الكذب فيهم والله أعلم .  [ ص: 260 ] 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					