وكذلك أيضا روي :  "إن رهبانية هذه الأمة : الجهاد في سبيل الله"   . إذ لا رهبانية في الإسلام  ، وأما ما ذكره في كتابه أن النصارى  [ ص: 372 ] ابتدعوا الرهبانية فقد نهانا الله ورسوله عن البدع . 
وثبت عنه في صحيح  مسلم  وغيره عن  جابر  أنه كان يقول في خطبته : "إن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد  ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة"  . 
وثبت عنه في السنن الحديث الذي صححه  الترمذي  عن  العرباض بن سارية  قال : وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة فقال رجل : يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال : "أوصيكم بالسمع والطاعة فإن من يعش منكم سيرى بعدي اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور; فإن كل بدعة ضلالة"  . 
فكيف بما نهى الله عنه ورسوله من العبادات المبتدعة؟ كما أخرجا في الصحيحين -واللفظ  لمسلم-  عن  أنس بن مالك  أن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي عن عمله في السر؟ 
فقال بعضهم : لا أتزوج النساء . وقال بعضهم : لا آكل اللحم . 
وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فحمد الله وأثنى عليه فقال : "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني"  .  [ ص: 373 ] 
ولفظ  البخاري   : جاء ثلاثة رهط بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -; فلما أخبروا كأنهم تقالوها! فقالوا : وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا . وقال الآخر : أنا أصوم الدهر أبدا . 
وقال الآخر : أنا اعتزل النساء فلا أتزوج . فجاء رسول الله [فقال] : "أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني"  . 
وفي الصحيحين عن  سعد بن أبي وقاص  قال : رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على  عثمان بن مظعون  التبتل ، ولو أذن له لاختصينا  . 
وفي صحيح  البخاري  وغيره عن  ابن عباس  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا قائما في الشمس فقال : ما هذا؟ فقالوا : هذا أبو إسرائيل  ، نذر أن يقوم في الشمس ولا يجلس ولا يستظل وأن يصوم ، فقال : "مروه فليجلس ، وليستظل وليتكلم وليتم صومه"  . 
فلما كان هذا الناذر نذر ما هو سنة وما هو بدعة أمره بالوفاء بالسنة دون البدعة ، كما في صحيح  البخاري  عن  عائشة  رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر  [ ص: 374 ] أن يعصي الله فلا يعصه"  . 
وهذا متفق عليه بين أئمة الدين ، لكن تنازعوا هل عليه كفارة يمين أو نذر ما ليس مشروعا; بعد اتفاقهم على أنه لا يفعله؟ 
فقيل : لا شيء عليه ، وهو مذهب  أبي حنيفة   والشافعي  وغيرهما لأنه ليس في هذا الحديث وغيره أنه أمر له بالتكفير . 
وقيل : بل عليه كفارة يمين ، وهو ظاهر مذهب  أحمد  ، لما ثبت في صحيح  مسلم  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "كفارة النذر كفارة يمين"  . وفي السنن عنه أنه قال :  "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين"  . 
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :  "أفضل الصيام صيام داود ، كان يصوم يوما ويفطر يوما ، وأفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه"  . وقد استفاض عنه في الصحيح أنه نهى عن مداومة الصيام والقيام وقراءة القرآن في أقل من ثلاث . وأمثال ذلك من النصوص التي تبين ما بعث الله به رسوله من الحنيفية السمحة . كما جاء في الحديث :  "أحب الدين إلي الحنيفية السمحة"  .  [ ص: 375 ] 
وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :  "إن هذا الدين متين وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغوا"  . 
وفي الصحيحين عنه أنه قال :  "اكلفوا من العمل ما تطيقون; فإن الله لا يمل حتى تملوا" . 
وفي السنن عنه أنه قال :  "لكل عامل شرة وفترة ، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ، ومن أخطأها فقد ضل" . وفي لفظ :  "ولكل شرة فترة; فإن [كان] صاحبها سدد وقارب فارجوه ، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه"  . 
فقيل  للحسن البصري  لما روى هذا الحديث : "إنك إذا مررت بالسوق فإن الناس يشيرون إليك؟ فقال : "لم يرد ذلك ، وإنما أراد المبتدع في دينه والفاجر في دنياه"  . وهو كما قال  الحسن  رضي الله عنه ، فإن من الناس من يكون له شدة ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة ، ثم لا بد من فتور في ذلك . وهم في الفترة نوعان : 
منهم : من يلزم السنة فلا يترك ما أمر به ، ولا يفعل ما نهي عنه بل يلزم عبادة الله إلى الممات; كما قال تعالى : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين  ، يعني الموت ، قال  الحسن البصري   : لم يجعل  [ ص: 376 ] الله لعباده المؤمنين أجلا دون الموت . 
ومنهم : من يخرج إلى البدعة في دينه أو فجور في دنياه حتى يشير إليه الناس ، فيقال : هذا كان مجتهدا في الدين ثم صار كذا وكذا . فهذا مما يخاف على من عدل عن العبادات الشرعية إلى الزيارات البدعية . ولهذا قال  أبي بن كعب   وعبد الله بن مسعود   : "اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة" . 
ومع هذا فجنس الجهاد أفضل ، بل قد روى  أبو هريرة  رضي الله عنه قال : مر رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته . فقال : لو اعتزلت الناس ، فأقمت في هذا الشعب ، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة; اغزوا في سبيل الله ، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة"  . قال  الترمذي   : حديث حسن صحيح . وفواق الناقة : ما بين الحلبتين . 
				
						
						
