المسألة الرابعة : 
قضى الله بحكمته وحكمه أن يتكلم الناس ، هل أسري بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بروحه ؟  ولو لا مشيئة ربنا السابقة بالاختلاف لكانت المسألة أبين عند الإنصاف ; فإن المنكر لذلك لا يخلو أن يكون ملحدا ينكر القدرة ، ويرى أن الثقيل لا يصعد علوا ، وطبعه استفال فما باله يتكلم معنا في هذا الفرع ، وهو منكر للأصل ; وهو وجود الإله وقدرته ، وأنه يصرف الأشياء بالعلم والإرادة ، لا بالطبيعة . 
وإن كان المنكر من أغبياء الملة يقر معنا بالإلهية والعلم ، والإرادة والقدرة على التصريف والتدبير والتقدير ، فيقال له : وما الذي يمنع من ارتقاء النبي في الهواء بقدرة خالق الأرض والسماء ؟  [ ص: 179 ] فإن قال : لأنه لم يرد . قلنا له : قد ورد من كل طريق على لسان كل فريق ، منهم  أبو ذر    ; قال  أنس    : قال  أبو ذر    : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فرج سقف بيتي ، وأنا بمكة  ، فنزل جبريل  ، ففرج صدري ، ثم غسله بماء زمزم  ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا ، فلما انتهينا إلى سماء الدنيا قال جبريل  لخازن السماء : افتح . قال : من هذا ؟ قال : هذا جبريل    . قال : هل معك أحد ؟ قال : نعم ، معي محمد    . فقال : أرسل إليه ؟ فقال : نعم . فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل على يمينه أسودة ، وعلى يساره أسودة ، إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والابن الصالح . قلت : يا جبريل  ، من هذا ؟ قال : هذا آدم  ، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر عن شماله بكى . ثم عرج بي إلى السماء الثانية ، فقال لخازنها : افتح ، فقال له خازنها مثل ما قال له الأول ، ففتح . قال  أنس    : فذكر أنه وجد في السماء آدم  ، وإدريس  ، وموسى  ، وعيسى  ، وإبراهيم .    } 
ولم يثبت كيف منازلهم ، غير أنه ذكر أنه وجد آدم  في السماء الدنيا ، وإبراهيم  في السماء السادسة . 
قال  أنس    : { فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل  بإدريس  ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح . فقلت : من هذا ؟ قال : هذا إدريس    . ثم مررت بموسى  ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح . قلت : من هذا ؟ قال : موسى    . ثم مررت بعيسى  ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح . قلت : من هذا ؟ قال : عيسى    . ثم مررت بإبراهيم  ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح . قلت : من هذا ؟ قال : إبراهيم    } . 
قال ابن شهاب    : فأخبرني  ابن حزم  أن  ابن عباس  وأبا حبة الأنصاري  كانا يقولان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام   } . 
 [ ص: 180 ] قال  ابن حزم  ،  وأنس بن مالك  قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ، فرجعت بذلك حتى مررت بموسى  ، فقال : ماذا فرض الله على أمتك ؟ قلت : فرض خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك ; فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعني ، فرجعت ، فوضع شطرها ، فرجعت إلى موسى  ، قلت : وضع شطرها . فقال : ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك . فرجعت ، فوضع شطرها ، فرجعت إليه ، فقال : ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعته ، فقال : هي خمس ، وهي خمسون لا يبدل القول لدي . فرجعت إلى موسى  ، فقال : ارجع إلى ربك ، فقلت : قد استحييت من ربي . قال : ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، وغشيها ألوان لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك   } . 
فإن قيل : فقد ثبت في الصحيح عن  أنس  أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { بينا أنا بين النائم واليقظان .   } وذكر حديث الإسراء بطوله ، إلى أن قال : { ثم استيقظت ، وأنا في المسجد الحرام    } . 
قلنا : عنه أجوبة ; منها : أن هذا اللفظ رواه شريك  عن  أنس  ، وكان تغير بآخرة فيعول على روايات الجميع . 
الثاني : أنه يحتمل أنه أرى النبي صلى الله عليه وسلم الإسراء رؤيا منام ، وطده الله بها ، ثم أراه إياها رؤيا عين ، كما فعل به حين أراد مشافهته بالوحي ; { أرسل إليه الملك في المنام بنمط من ديباج فيه : اقرأ باسم ربك ، وقال له : اقرأ . فقال : ما أنا بقارئ ، فغطه حتى بلغ منه الجهد ، ثم أرسله ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ   } إلى آخر الحديث .  [ ص: 181 ] 
فلما كان بعد ذلك جاءه الملك في اليقظة بمثل ما أراده في المنام . وكانت الحكمة في ذلك أن أراه الله في المنام ما أراه من ذلك توطيدا وتثبيتا لنفسه ، حتى لا يأتيه الحال فجأة ، فتقاسي نفسه الكريمة منها شدة ، لعجز القوى الآدمية عن مباشرة الهيئة الملكية . 
وقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق عن  ابن عباس  في قوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس    } ; ولو كانت رؤيا منام ما افتتن بها أحد ، ولا أنكرها ; فإنه لا يستبعد على أحد أن يرى نفسه يخترق السموات ، ويجلس على الكرسي ، ويكلمه الرب . 
				
						
						
