[ ص: 227 ] المسألة الثانية : 
قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله    } قال علماؤنا : هذا تأديب من الله لرسوله ، أمره فيه أن يعلق كل شيء بمشيئة الله إذ من دين الأمة ومن نفيس اعتقادهم ( ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ) لا جرم فلقد تأدب نبينا بأدب الله حين علق المشيئة  بالكائن لا محالة ، فقال يوما وقد خرج إلى المقبرة : { السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون   } . 
وقال أيضا : { إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير ، وكفرت عن يميني   } . 
المسألة الثالثة : فإذا ثبت هذا فقاله المرء كما يلزمه في الاعتقاد ، فهل يكون استثناء في اليمين أم لا  ؟ 
قال جمهور فقهاء الأمصار : يكون استثناء . 
وقال ابن القاسم  ، وأشهب  ، وابن عبد الحكم  ، وأسامة بن أحمد بن محمد  عن أبيه عن  مالك    . إن قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله    } . إنما قصد بذلك ذكر الله عند السهو والغفلة وليس باستثناء . 
وهذا الذي قال  مالك  رضي الله عنه لم أجد عليه دليلا ; لأن ربط المشيئة ، وذكرها قولا من العبد لفعل العبد ، فقال لعبده : لا تقل إني فاعل شيئا فيما تستقبله إلا أن يشاء الله ، تقديره عند قوم : إلا بمشيئة الله . 
وتقديره عند آخرين : إلا أن تقول إن شاء الله .  [ ص: 228 ] وقد مهدناه في رسالة الملجئة ، وهذا عزم من الله لعبده على أن يدخل قولا وعقدا في مشيئة ربه ، فما تشاءون إلا أن يشاء الله ; وقول ذلك أجدر في قضاء الأمر ، ودرك الحاجة . قال النبي صلى الله عليه وسلم : { قال سليمان بن داود    : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : إن شاء الله ، فلم يقل ، فلم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو قالها لجاهدوا في سبيل الله   } . 
فهذا بيان الثنيا في اليمين  ، وأنها حالة لعقد الأيمان ، وأصل في سقوط سبب الكفارة عنها ، وإنما الذي قاله  مالك  من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يذكر الله عند السهو والغفلة يصح أن يكون تفسيرا لقوله :  { واذكر ربك إذا نسيت    } . وفيها ثلاثة أقوال    : 
الأول : قال  ابن عباس    : معناه واذكر ربك إذا نسيت بالاستثناء في الأيمان ، متى ذكرت ، ولو إلى سنة ، وتابعه على ذلك  أبو العالية  ، والحسن    . 
الثاني : قال عكرمة    : معناه واذكر ربك إذا غضبت . 
الثالث : أن معناه واذكر ربك إذا نسيت بالاستثناء ، فيرفع عنه ذكر الاستثناء الحرج ، وتبقى الكفارة . وإن كان الاستثناء متصلا انتفى الحرج والكفارة . 
فأما من قال : إن معناه واذكر ربك إذا نسيت بالاستثناء فقد قال صلى الله عليه وسلم : { وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني   } . 
وأما من قال : معناه واذكر ربك إذا غضبت بالغين والضاد المعجمتين فمعناه التثبت عند الغضب فإنه موضع عجلة ، ومزلة قدم ، والمرء يؤاخذ بما ينطق به فمه ، كما تقدم بيانه .  [ ص: 229 ] ومن رواه بالعين والصاد المهملتين فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته ، لاستحالة المعصية على الأنبياء شرعا بالخبر الوارد الصادق في تنزيههم عنها . 
وأما من قال : إن معناه واذكر ربك بالاستثناء في اليمين ليرتفع عنك الحرج دون الكفارة فهو تحكم بغير دليل . 
فتبين أن الصحيح في معنى الآية إرادة الاستثناء الذي يرفع اليمين المنعقدة بالله تعالى  وهي رخصة من الله وردت في اليمين به خاصة لا تتعداه إلى غيره من الأيمان ، وهي : 
المسألة الرابعة : 
وخالف في ذلك  مالك   والشافعي   وأبو حنيفة  وغيرهم فقالوا : إن الاستثناء نافع في كل يمين كالطلاق والعتق ; لأنها يمين تنعقد مطلقة ، فإذا قرن بها ذكر الله على طريق الاستثناء كان ذلك مانعا انعقادها ، كاليمين بالله . 
ومعول المالكية على أن مشيئة الله سبحانه إنما تعلم بوقوع الفعل ; لأنه لا يكون إلا ما يشاء ، فإذا قال : أنت طالق إن شاء الله  ، أو أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله ، فقد كان الطلاق بوجود المشيئة ; لأن وجود الفعل علامة عليها ، وهذا أصل من أصول السنة ، وقد مهدناه في مسائل الخلاف . 
				
						
						
