قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا  
 [ ص: 301 ] فيه عشر مسائل : 
الأولى : قوله تعالى : ضربتم سافرتم ، وقد تقدم . واختلف العلماء في حكم القصر في السفر  ؛ فروي عن جماعة أنه فرض . وهو قول عمر بن عبد العزيز  والكوفيين والقاضي إسماعيل   وحماد بن أبي سليمان  ؛ واحتجوا بحديث عائشة  رضي الله عنها ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ) الحديث ، ولا حجة فيه لمخالفتها له ؛ فإنها كانت تتم في السفر وذلك يوهنه . وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم ؛ وقد قال غيرها من الصحابة كعمر   وابن عباس   وجبير بن مطعم    : ( إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ) رواه مسلم  عن ابن عباس    . ثم إن حديث عائشة  قد رواه ابن عجلان  عن صالح بن كيسان  عن عروة  عن عائشة  قالت : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين   . وقال فيه الأوزاعي  عن ابن شهاب  عن عروة  عن عائشة  قالت : فرض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين ؛ الحديث ، وهذا اضطراب . ثم إن قولها : ( فرضت الصلاة ) ليس على ظاهره ؛ فقد خرج عنه صلاة المغرب والصبح ؛ فإن المغرب ما زيد فيها ولا نقص منها . وكذلك الصبح ، وهذا كله - يضعف متنه لا سنده . وحكى ابن الجهم  أن أشهب  روى عن مالك  أن القصر فرض ، ومشهور مذهبه وجل أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة ، وهو قول  الشافعي  ، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه إن شاء الله . ومذهب عامة البغداديين من المالكيين أن الفرض التخيير ؛ وهو قول أصحاب  الشافعي    . ثم اختلفوا في أيهما أفضل ؛ فقال بعضهم : القصر أفضل ؛ وهو قول  الأبهري  وغيره . وقيل : إن الإتمام أفضل ؛ وحكي عن  الشافعي    . وحكى أبو سعيد الفروي  المالكي أن الصحيح في مذهب مالك  التخيير للمسافر في الإتمام والقصر    . 
قلت : وهو الذي يظهر من قوله سبحانه وتعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة  إلا أن  مالكا  رحمه الله يستحب له القصر ، وكذلك يرى عليه الإعادة في الوقت إن أتم . وحكى أبو مصعب  في " مختصره " عن مالك  وأهل المدينة   قال : القصر في السفر للرجال والنساء سنة . قال أبو عمر    : وحسبك بهذا في مذهب مالك  ، مع أنه لم يختلف قوله : أن من أتم في السفر يعيد ما دام في الوقت ؛ وذلك استحباب عند من فهم ، لا إيجاب . وقال  الشافعي    :   [ ص: 302 ] القصر في غير الخوف بالسنة ، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسنة ؛ ومن صلى أربعا فلا شيء عليه ، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة . وقال أبو بكر الأثرم    : قلت  لأحمد بن حنبل  للرجل أن يصلي في السفر أربعا ؟ قال : لا ، ما يعجبني ، السنة ركعتان . وفي موطأ مالك  عن ابن شهاب  عن رجل من آل خالد بن أسيد  ، أنه سأل عبد الله بن عمر  فقال : يا أبا عبد الرحمن  إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر ؟ فقال عبد الله بن عمر    : يا ابن أخي إن الله تبارك وتعالى بعث إلينا محمدا  صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا ، فإنا نفعل كما رأيناه يفعل   . ففي هذا الخبر قصر الصلاة في السفر من غير خوف سنة لا فريضة ؛ لأنها لا ذكر لها في القرآن ، وإنما القصر المذكور في القرآن إذا كان سفرا وخوفا واجتمعا ؛ فلم يبح القصر في كتابه إلا مع هذين الشرطين . ومثله في القرآن : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح  الآية ، وقد تقدم . ثم قال تعالى : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة  أي فأتموها ؛ وقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أربع إلى اثنتين إلا المغرب في أسفاره كلها آمنا لا يخاف إلا الله تعالى ؛ فكان ذلك سنة مسنونة منه صلى الله عليه وسلم ، زيادة في أحكام الله تعالى كسائر ما سنه وبينه ، مما ليس له في القرآن ذكر . وقوله : " كما رأيناه يفعل " مع حديث عمر  حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصر في السفر من غير خوف ؛ فقال : تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته يدل على أن الله تعالى قد يبيح الشيء في كتابه بشرط ثم يبيح ذلك الشيء على لسان نبيه من غير ذلك الشرط . وسأل حنظلة ابن عمر  عن صلاة السفر فقال : ركعتان . 
قلت : فأين قوله تعالى : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا  ونحن آمنون ؛ قال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذا ابن عمر  قد أطلق عليها سنة ؛ وكذلك قال ابن عباس    . فأين المذهب عنهما ؟ قال أبو عمر    : ولم يقم مالك  إسناد هذا الحديث ؛ لأنه لم يسم الرجل الذي سأل ابن عمر  ، وأسقط من الإسناد رجلا ، والرجل الذي لم يسمه هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف  ، والله أعلم . 
الثانية : واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة  ؛ فقال داود    : تقصر في كل سفر طويل أو قصير ، ولو كان ثلاثة أميال من حيث تؤتى الجمعة ؛ متمسكا بما رواه مسلم  عن يحيى بن يزيد الهنائي  قال : سألت أنس بن مالك  عن قصر الصلاة فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة  الشاك - صلى ركعتين   . وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه مشكوك فيه ، وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ منها القصر ،   [ ص: 303 ] وكان سفرا طويلا زائدا على ذلك ، والله أعلم . قال  ابن العربي    : وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا : إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل ، وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب أو مستخف بالدين ، ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني ، ولا أفكر فيه بفضول قلبي . ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة ، وإنما كان كذلك لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين - خاطبهم الله تعالى بالقرآن ؛ فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لغة ولا شرعا ، وإن مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعا . كما أنا نحكم على أن من مشى يوما وليلة كان مسافرا ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها وهذا هو الصحيح ، لأنه وسط بين الحالين وعليه عول مالك  ، ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه ، وروي مرة ( يوما وليلة ) ومرة ( ثلاثة أيام ) فجاء إلى عبد الله بن عمر  فعول على فعله ، فإنه كان يقصر الصلاة إلى رئم ، وهي أربعة برد ؛ لأن ابن عمر  كان كثير الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . قال غيره : وكافة العلماء على أن القصر إنما شرع تخفيفا  ، وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا ، فراعى مالك   والشافعي  وأصحابهما  والليث   والأوزاعي  وفقهاء أصحاب الحديث أحمد  وإسحاق  وغيرهما يوما تاما . وقول مالك  يوما وليلة راجع إلى اليوم التام ، لأنه لم يرد بقوله : مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله ، وإنما أراد أن يسير سيرا يبيت فيه بعيدا عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم . وفي  البخاري    : وكان ابن عمر   وابن عباس  يفطران ويقصران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخا ، وهذا مذهب مالك    . وقال  الشافعي   والطبري    : ستة وأربعون ميلا . وعن مالك  في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على خمسة وأربعين ميلا قال : يقصر ، وهو أمر متقارب . وعن مالك  في الكتب المنثورة : أنه يقصر في ستة وثلاثين ميلا ، وهي تقرب من يوم وليلة . وقال يحيى بن عمر    : يعيد أبدا . ابن عبد الحكم    : في الوقت ! . وقال الكوفيون : لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام ؛ وهو قول عثمان   وابن مسعود  وحذيفة    . وفي صحيح  البخاري  عن ابن عمر  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم   . قال أبو حنيفة    : ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام . وقال الحسن   والزهري    : تقصر الصلاة في مسيرة يومين ؛ وروي هذا القول عن مالك  ، ورواه أبو سعيد الخدري  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي   [ ص: 304 ] محرم   . وقصر ابن عمر  في ثلاثين ميلا ، وأنس  في خمسة عشر ميلا . وقال الأوزاعي    : عامة العلماء في القصر على اليوم التام ، وبه نأخذ . قال أبو عمر    : اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب كما ترى في ألفاظها ؛ ومجملها عندي - والله أعلم - أنها خرجت على أجوبة السائلين ، فحدث كل واحد بمعنى ما سمع ، كأنه قيل له صلى الله عليه وسلم في وقت ما : هل تسافر المرأة مسيرة يوم بغير محرم ؟  فقال : لا . وقيل له في وقت آخر : هل تسافر المرأة يومين بغير محرم ؟ فقال : لا . وقال له آخر : هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم ؟ فقال : لا . وكذلك معنى الليلة والبريد على ما روي ، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى ، والله أعلم . ويجمع معاني الآثار في هذا الباب - وإن اختلفت ظواهرها - الحظر على المرأة أن تسافر سفرا يخاف عليها فيه الفتنة بغير محرم ، قصيرا كان أو طويلا . والله أعلم . 
الثالثة : واختلفوا في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة  ، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس . واختلفوا فيما سوى ذلك ، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح كالتجارة ونحوها . وروي عن ابن مسعود  أنه قال : لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد . وقال عطاء    : لا تقصر إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير . وروي عنه أيضا : تقصر في كل السفر المباح مثل قول الجمهور . وقال مالك    : إن خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزها ، أو خرج لمشاهدة بلدة متنزها ومتلذذا لم يقصر . والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية ؛ كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما . وروي عن أبي حنيفة   والأوزاعي  إباحة القصر في جميع ذلك ، وروي عن مالك    . وقد تقدم في " البقرة " واختلف عن أحمد  ، فمرة قال بقول الجمهور ، ومرة قال : لا يقصر إلا في حج أو عمرة . والصحيح ما قاله الجمهور ، لأن القصر إنما شرع تخفيفا عن المسافر للمشقات اللاحقة فيه ، ومعونته على ما هو بصدده مما يجوز ، وكل الأسفار في ذلك سواء ؛ لقوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح  أي إثم أن تقصروا من الصلاة  فعم . وقال عليه السلام خير عباد الله الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا   . وقال الشعبي    : إن الله يحب أن يعمل برخصه كما يحب أن يعمل بعزائمه   . وأما سفر المعصية فلا يجوز القصر فيه ؛ لأن ذلك يكون عونا له على معصية الله . والله تعالى يقول : وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان 
  [ ص: 305 ] الرابعة : واختلفوا متى يقصر  ، فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية ، وحينئذ هو ضارب في الأرض ، وهو قول مالك  في المدونة . ولم يحد مالك  في القرب حدا . وروي عنه إذا كانت قرية تجمع أهلها فلا يقصر أهلها حتى يجاوزوها بثلاثة أميال ، وإلى ذلك في الرجوع . وإن كانت لا تجمع أهلها قصروا إذا جاوزوا بساتينها . وروي عن الحارث بن أبي ربيعة  أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله ، وفيهم الأسود بن يزيد  وغير واحد من أصحاب ابن مسعود  ، وبه قال عطاء بن أبي رباح   وسليمان بن موسى    . 
قلت : ويكون معنى الآية على هذا : وإذا ضربتم في الأرض  أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض . والله أعلم . وروي عن مجاهد  أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل . وهذا شاذ ؛ وقد ثبت من حديث أنس بن مالك  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة  أربعا وصلى العصر بذي الحليفة  ركعتين . أخرجه الأئمة ، وبين ذي الحليفة  والمدينة  نحو من ستة أميال أو سبعة . 
الخامسة : وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام  ؛ فإن افتتح الصلاة بنية القصر ثم عزم على المقام في أثناء صلاته جعلها نافلة ، وإن كان ذلك بعد أن صلى منها ركعة أضاف إليها أخرى وسلم ، ثم صلى صلاة مقيم . قال الزهري  وابن الجلاب    : هذا - والله أعلم - استحباب ولو بنى على صلاته وأتمها أجزأته صلاته . قال أبو عمر    : هو عندي كما قالا ؛ لأنها ظهر ، سفرية كانت أو حضرية وكذلك سائر الصلوات الخمس . 
السادسة : واختلف العلماء من هذا الباب في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتم  ؛ فقال مالك   والشافعي   والليث بن سعد   والطبري   وأبو ثور    : إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتم ؛ وروي عن  سعيد بن المسيب    . وقال أبو حنيفة  وأصحابه  والثوري    : إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتم ، وإن كان أقل قصر . وهو قول ابن عمر   وابن عباس  ولا مخالف لهما من الصحابة فيما ذكر  الطحاوي  ، وروي عن سعيد  أيضا . وقال أحمد    : إذا جمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر ، وإن زاد على ذلك أتم ، وبه قال داود    . والصحيح ما قاله مالك  ؛ لحديث ابن الحضرمي  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة  بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام ثم يصدر   . أخرجه  الطحاوي   وابن ماجه  وغيرهما . ومعلوم أن الهجرة إذ كانت مفروضة قبل الفتح كان المقام بمكة  لا يجوز ؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه وتهيئة أسبابه ، ولم يحكم لها بحكم المقام ولا في حيز الإقامة ، وأبقى عليه فيها حكم المسافر ، ومنعه من مقام   [ ص: 306 ] الرابع ، فحكم له بحكم الحاضر القاطن ؛ فكان ذلك أصلا معتمدا عليه . ومثله ما فعله عمر  رضي الله عنه حين أجلى اليهود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فجعل لهم مقام ثلاثة أيام في قضاء أمورهم . قال  ابن العربي    : وسمعت بعض أحبار المالكية يقول : إنما كانت الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة ؛ لأن الله تعالى أرجأ فيها من أنزل به العذاب وتيقن الخروج عن الدنيا ؛ فقال تعالى : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب    . 
وفي المسألة قول غير هذه الأقوال ، وهو أن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه ، أو ينزل وطنا له . روي عن أنس  أنه أقام سنتين بنيسابور  يقصر الصلاة . وقال أبو مجلز    : قلت  لابن عمر    : إني آتي المدينة  فأقيم بها السبعة الأشهر والثمانية طالبا حاجة ، فقال : صل ركعتين . وقال  أبو إسحاق السبيعي    : أقمنا بسجستان  ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود  سنتين نصلي ركعتين   . وأقام ابن عمر  بأذربيجان  يصلي ركعتين ركعتين ؛ وكان الثلج حال بينهم وبين القفول : قال أبو عمر    : محمل هذه الأحاديث عندنا على ألا نية لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدة ؛ وإنما مثل ذلك أن يقول : أخرج اليوم ، أخرج غدا ؛ وإذا كان هكذا فلا عزيمة هاهنا على الإقامة . 
السابعة : روى مسلم  عن عروة  عن عائشة  قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ، ثم أتمها في الحضر  ، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى   . قال الزهري    : فقلت لعروة  ما بال عائشة  تتم في السفر ؟ قال : إنها تأولت ما تأول عثمان    . وهذا جواب ليس بموعب . وقد اختلف الناس في تأويل إتمام عثمان   وعائشة  رضي الله عنهما على أقوال : فقال معمر  عن الزهري    : إن عثمان  رضي الله عنه إنما صلى بمنى  أربعا لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج   . وروى مغيرة  عن إبراهيم  أن عثمان  صلى أربعا لأنه اتخذها وطنا . وقال يونس  عن الزهري  قال : لما اتخذ عثمان  الأموال بالطائف  وأراد أن يقيم بها صلى أربعا   . قال : ثم أخذ به الأئمة بعده . وقال أيوب  عن الزهري  ، إن عثمان بن عفان  أتم الصلاة بمنى  من أجل الأعراب ؛ لأنهم كثروا عامئذ فصلى بالناس أربعا ليعلمهم أن الصلاة أربع . ذكر هذه الأقوال كلها أبو داود  في مصنفه في كتاب المناسك في باب الصلاة بمنى    . وذكر أبو عمر  في ( التمهيد ) قال ابن   [ ص: 307 ] جريج    : وبلغني إنما أوفاها عثمان  أربعا بمنى  ، من أجل أن أعرابيا ناداه في مسجد الخيف بمنى  فقال : يا أمير المؤمنين ، ما زلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام الأول ؛ فخشي عثمان  أن يظن جهال الناس أنما الصلاة ركعتان . قال  ابن جريج    : وإنما أوفاها بمنى  فقط . قال أبو عمر    : وأما التأويلات في إتمام عائشة  فليس منها شيء يروى عنها ، وإنما هي ظنون وتأويلات لا يصحبها دليل . وأضعف ما قيل في ذلك : إنها أم المؤمنين ، وإن الناس حيث كانوا هم بنوها ، وكان منازلهم منازلها ، وهل كانت أم المؤمنين إلا أنها زوج النبي أبي المؤمنين صلى الله عليه وسلم وهو الذي سن القصر في أسفاره وفي غزواته وحجه وعمره . وفي قراءة أبي بن كعب  ومصحفه " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " . وقال مجاهد  في قوله تعالى : هؤلاء بناتي هن أطهر لكم  قال : لم يكن بناته ولكن كن نساء أمته ، وكل نبي فهو أبو أمته . 
قلت : وقد اعترض على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشرعا ، وليست هي كذلك فانفصلا . وأضعف من هذا قول من قال : إنها حيث أتمت لم تكن في سفر جائز ؛ وهذا باطل قطعا ، فإنها كانت أخوف لله وأتقى من أن تخرج في سفر لا يرضاه . وهذا التأويل عليها من أكاذيب الشيعة  المبتدعة وتشنيعاتهم ؛ سبحانك هذا بهتان عظيم ! وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسبة تريد أن تطفئ نار الفتنة ، إذ هي أحق أن يستحيا منها فخرجت الأمور عن الضبط . وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى . وقيل : إنها أتمت لأنها لم تكن ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزوة . وهذا باطل ؛ لأن ذلك لم ينقل عنها ولا عرف من مذهبها ، ثم هي قد أتمت في سفرها إلى علي    . وأحسن ما قيل في قصرها وإتمامها أنها أخذت برخصة الله ؛ لتري الناس ، أن الإتمام ليس فيه حرج وإن كان غيره أفضل    . وقد قال عطاء    : القصر سنة ورخصة ، وهو الراوي عن عائشة  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام وأفطر وأتم الصلاة وقصر في السفر ، رواه أبو طلحة بن عمر    . وعنه قال : كل ذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صام وأفطر وقصر الصلاة وأتم . وروى  النسائي  بإسناد صحيح أن عائشة  اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة  إلى مكة  حتى إذا قدمت مكة  قالت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ! قصرت وأتممت وأفطرت وصمت ؟ فقال : أحسنت يا عائشة  وما عاب علي   . كذا هو مقيد بفتح التاء الأولى وضم الثانية في الكلمتين . وروى  الدارقطني  عن عائشة  أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم ؛ قال إسناده صحيح . 
الثامنة : قوله تعالى : أن تقصروا من الصلاة  أن في موضع نصب ، أي في أن   [ ص: 308 ] تقصروا . قال أبو عبيد    : فيها ثلاث لغات : قصرت الصلاة وقصرتها وأقصرتها . واختلف العلماء في تأويله ، فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنتين من أربع في الخوف وغيره ؛ لحديث  يعلى بن أمية  على ما يأتي . وقال آخرون : إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة ، والركعتان في السفر إنما هي تمام ، كما قال عمر  رضي الله عنه : تمام غير قصر ، وقصرها أن تصير ركعة . قال السدي : إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام ، والقصر لا يحل إلا أن تخاف ، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا ، ويكون للإمام ركعتان   . وروي نحوه عن ابن عمر   وجابر بن عبد الله  وكعب  ، وفعله حذيفة  بطبرستان  وقد سأله الأمير سعيد بن العاص  عن ذلك . وروى ابن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد  ركعة لكل طائفة ولم يقضوا   . وروى  جابر بن عبد الله  أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعة سحابة يوم محارب خصفة  وبني ثعلبة    . وروى  أبو هريرة  أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان  وعسفان    . 
قلت : وفي صحيح مسلم  عن ابن عباس  قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة   . وهذا يؤيد هذا القول ويعضده ، إلا أن القاضي أبا بكر بن العربي  ذكر في كتابه المسمى ( بالقبس ) : قال علماؤنا رحمة الله عليهم هذا الحديث مردود بالإجماع . 
قلت : وهذا لا يصح ، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع وبالله التوفيق . وحكى  أبو بكر الرازي الحنفي  في ( أحكام القرآن ) أن المراد بالقصر هاهنا القصر في صفة الصلاة  بترك الركوع والسجود إلى الإيماء ، وبترك القيام إلى الركوع . وقال آخرون : هذه الآية مبيحة للقصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب ، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه ، إلى تكبيرة ؛ على ما تقدم في " البقرة " . ورجح الطبري  هذا القول وقال : إنه يعادله قوله تعالى : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة  أي بحدودها وهيئتها الكاملة . 
قلت : هذه الأقوال الثلاثة في المعنى متقاربة ، وهي مبنية على أن فرض المسافر القصر ، وإن الصلاة في حقه ما نزلت إلا ركعتين ، فلا قصر . ولا يقال في العزيمة لا جناح ، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر ، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك . وذكر الله تعالى القصر بشرطين والذي يعتبر فيه الشرطان صلاة الخوف ؛ هذا ما ذكره أبو بكر الرازي  في ( أحكام القرآن ) واحتج به ، ورد عليه بحديث  يعلى بن أمية  على ما يأتي آنفا إن شاء الله تعالى . 
 [ ص: 309 ] التاسعة : قوله تعالى : إن خفتم  خرج الكلام على الغالب ، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار ؛ ولهذا قال  يعلى بن أمية  قلت لعمر    : ما لنا نقصر وقد أمنا . قال عمر    : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته   . 
قلت : وقد استدل أصحاب  الشافعي  وغيرهم على الحنفية بحديث  يعلى بن أمية  هذا فقالوا : إن قوله : " ما لنا نقصر وقد أمنا " دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات . قال الكيا الطبري    : ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة  على هذا تأويلا يساوي الذكر ؛ ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان ؛ فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السفر بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا فتجوز صلاة الخوف ؛ فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله . وفي قراءة أبي    " أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا " بسقوط إن خفتم . والمعنى على قراءته : كراهية أن يفتنكم الذين كفروا . وثبت في مصحف عثمان  رضي الله عنه إن خفتم . وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو ؛ فمن كان آمنا فلا قصر له . روي عن عائشة  رضي الله عنها أنها كانت تقول في السفر : أتموا صلاتكم ؛ فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر ، فقالت : إنه كان في حرب وكان يخاف ، وهل أنتم تخافون ؟   . وقال عطاء    : كان يتم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة   وسعد بن أبي وقاص   وأتم عثمان  ، ولكن ذلك معلل بعلل تقدم بعضها . وذهب جماعة إلى أن الله تعالى لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين : السفر والخوف ، وفي غير الخوف بالسنة ، منهم  الشافعي  وقد تقدم . وذهب آخرون إلى أن قوله تعالى : إن خفتم  ليس متصلا بما قبل ، وأن الكلام تم عند قوله : من الصلاة ثم افتتح فقال : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا  فأقم لهم يا محمد  صلاة الخوف . وقوله : إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا  كلام معترض ، قاله الجرجاني  وذكره المهدوي  وغيرهما . ورد هذا القول القشيري   والقاضي أبو بكر بن العربي    . قال  القشيري أبو نصر    : وفي الحمل على هذا تكلف شديد ، وإن أطنب الرجل - يريد الجرجاني    - في التقدير وضرب الأمثلة . وقال  ابن العربي    : وهذا كله لم يفتقر إليه عمر  ولا ابنه ولا  يعلى بن أمية  معهما . 
قلت : قد جاء حديث بما قاله الجرجاني  ذكره  القاضي أبو الوليد بن رشد  في مقدماته ، وابن عطية  أيضا في تفسيره عن علي بن أبي طالب  رضي الله عنه أنه قال : سأل قوم من التجار   [ ص: 310 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة  ثم انقطع الكلام ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد  وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى في أثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا  إلى آخر صلاة الخوف   . فإن صح هذا الخبر فليس لأحد معه مقال ، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن . وقد روي عن ابن عباس  أيضا مثله ، قال : إن قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة  نزلت في الصلاة في السفر ، ثم نزل إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا  في الخوف بعدها بعام . فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين . فقوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة  يعني به في السفر ؛ وتم الكلام ، ثم ابتداء فريضة أخرى فقدم الشرط ، والتقدير : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة . والواو زائدة ، والجواب فلتقم طائفة منهم معك . وقوله : إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا  اعتراض . وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة ، وهو حديث عمر  إذ روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته   . قال النحاس    : من جعل قصر النبي صلى الله عليه وسلم في غير خوف وفعله في ذلك ناسخا للآية فقد غلط ؛ لأنه ليس في الآية منع للقصر في الأمن ، وإنما فيها إباحة القصر في الخوف  فقط . 
العاشرة : قوله تعالى : أن يفتنكم الذين كفروا  قال الفراء    : أهل الحجاز   يقولون فتنت الرجل . وربيعة  وقيس  وأسد  وجميع أهل نجد  يقولون أفتنت الرجل . وفرق الخليل   وسيبويه  بينهما فقالا : فتنته جعلت فيه فتنة مثل أكحلته ، وأفتنته جعلته مفتتنا . وزعم الأصمعي  أنه لا يعرف أفتنته . إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا  عدوا هاهنا بمعنى أعداء . والله أعلم . 
				
						
						
