قوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير   قوله تعالى : لا تدركه الأبصار  بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث ، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد ، كما تدرك سائر المخلوقات ، والرؤية ثابتة . فقال الزجاج    : أي لا يبلغ كنه حقيقته ; كما تقول : أدركت كذا وكذا ; لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة . وقال ابن عباس    : لا تدركه الأبصار  في الدنيا ، ويراه المؤمنون في الآخرة   ; لإخبار الله بها في قوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة    . وقال  السدي    . وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة . وسيأتي بيانه في " يونس " . وقيل : لا تدركه الأبصار  لا تحيط به وهو يحيط بها ; عن ابن عباس  أيضا . وقيل : المعنى لا تدركه أبصار القلوب ، أي لا تدركه العقول فتتوهمه ; إذ ليس كمثله شيء  وقيل : المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا ، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصرا وإدراكا يراه فيه كمحمد  عليه السلام ; إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا ، إذ لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى  عليه السلام مستحيلا ، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز ، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل . واختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربه  ، ففي صحيح مسلم  عن مسروق  قال : كنت متكئا عند عائشة  ، فقالت : يا أبا عائشة  ، ثلاث   [ ص: 51 ] من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية . قلت : ما هن ؟ قالت : من زعم أن محمدا  رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية . قال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين ، أنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله عز وجل ولقد رآه بالأفق المبين    . ولقد رآه نزلة أخرى  ؟ فقالت : أنا أول هذه الأمة من سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنما هو جبريل  لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض . فقالت : أولم تسمع أن الله عز وجل يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير  ؟ أولم تسمع أن الله عز وجل يقول : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا  إلى قوله علي حكيم  ؟ قالت : ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته  قالت : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله    . وإلى ما ذهبت إليه عائشة  رضي الله عنها من عدم الرؤية ، وأنه إنما رأى جبريل    : ابن مسعود  ، ومثله عن  أبي هريرة  رضي الله عنه ، وأنه رأى جبريل  ، واختلف عنهما . وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين . وعن ابن عباس  أنه رآه بعينه ; هذا هو المشهور عنه . وحجته قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى    . وقال عبد الله بن الحارث    : اجتمع ابن عباس   وأبي بن كعب  ، فقال ابن عباس    : أما نحن بنو هاشم  فنقول إن محمدا  رأى ربه مرتين . ثم قال ابن عباس    : أتعجبون أن الخلة تكون لإبراهيم  والكلام لموسى  ، والرؤية لمحمد  صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين . قال : فكبر كعب  حتى جاوبته الجبال ، ثم قال : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد  وموسى  عليهما السلام ، فكلم موسى  ورآه محمد  صلى الله عليه وسلم   . وحكى عبد الرزاق  أن الحسن  كان يحلف بالله لقد رأى محمد  ربه . وحكاه أبو عمر الطلمنكي  عن عكرمة  ، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود  ، والأول عنه أشهر . وحكى ابن إسحاق  أن مروان  سأل  أبا هريرة    : هل رأى محمد  ربه ؟ فقال نعم وحكى النقاش  عن  أحمد بن حنبل  أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس    : بعينه رآه رآه ! حتى انقطع نفسه ،   [ ص: 52 ] يعني نفس أحمد    . وإلى هذا ذهب  الشيخ أبو الحسن الأشعري  وجماعة من أصحابه أن محمدا  صلى الله عليه وسلم رأى الله ببصره وعيني رأسه . وقاله أنس   وابن عباس  وعكرمة  والربيع  والحسن    . وكان الحسن  يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد  ربه   . وقال جماعة ، منهم أبو العالية  والقرظي   والربيع بن أنس    : إنه إنما رأى ربه بقلبه وفؤاده ; وحكي عن ابن عباس  أيضا وعكرمة    . وقال أبو عمر    : قال  أحمد بن حنبل  رآه بقلبه ، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار . وعن مالك بن أنس  قال : لم ير في الدنيا ; لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي . قال القاضي عياض    : وهذا كلام حسن مليح ، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة ; فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقه . وسيأتي شيء من هذا في حق موسى  عليه السلام في " الأعراف " إن شاء الله . 
قوله تعالى : وهو يدرك الأبصار  أي لا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه . وإنما خص الأبصار ; لتجنيس الكلام . وقال الزجاج    : وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار ; أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر ، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه . ثم قال : وهو اللطيف الخبير  أي الرفيق بعباده ; يقال : لطف فلان بفلان يلطف ، أي رفق به . واللطف في الفعل الرفق فيه . واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة . وألطفه بكذا ، أي بره به . والاسم اللطف بالتحريك . يقال : جاءتنا من فلان لطفة ; أي هدية . والملاطفة المبارة ; عن الجوهري  وابن فارس    . قال أبو العالية    : المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها . وقال الجنيد    : اللطيف من نور قلبك بالهدى ، وربى جسمك بالغذا ، وجعل لك الولاية في البلوى ، ويحرسك وأنت في لظى ، ويدخلك جنة المأوى . وقيل غير هذا ، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيره . وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في " الشورى " إن شاء الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					