فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى يابني آدم هو خطاب لجميع العالم ، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا ; فإنه عام في كل مسجد للصلاة ; لأن العبرة للعموم لا للسبب . ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف ; لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد [ ص: 170 ] واحد ، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة . وهذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول : من يعيرني تطوافا ؟ تجعله على فرجها . وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية خذوا زينتكم عند كل مسجد " التطواف " بكسر التاء . وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط ; قاله القاضي عياض . وفي صحيح مسلم أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس ، والحمس قريش وما ولدت ، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء . وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة ، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات . في غير مسلم : ويقولون نحن أهل الحرم ، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا ، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين : إما أن يطوف بالبيت عريانا ، وإما أن يطوف في ثيابه ; فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد . وكان ذلك الثوب يسمى اللقى ; قال قائل من العرب :كفى حزنا كري عليه كأنه     لقى بين أيدي الطائفين حريم 
الثالثة : واختلفوا إذا رأى عورة نفسه ; فقال الشافعي : إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فترى من الجيب العورة ، فإن لم يفعل ورأى عورة نفسه أعاد الصلاة . وهو قول أحمد . ورخص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار ، ليس عليه سراويل . وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور . وكان سالم يصلي محلول الأزرار . وقال داود الطائي : إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به . وحكى معناه الأثرم عن أحمد . فإن كان إماما فلا يصلي إلا [ ص: 172 ] بردائه ; لأنه من الزينة . وقيل : من الزينة الصلاة في النعلين ; رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح . وقيل : زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه . قال أبو عمر : لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي . وقال عمر رضي الله عنه : إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم ، جمع رجل عليه ثيابه ، صلى في إزار ورداء ، في إزار وقميص ، في إزار وقباء ، في سراويل ورداء ، في سراويل وقميص ، في سراويل وقباء - وأحسبه قال : في تبان وقميص - في تبان ورداء ، في تبان وقباء . رواه البخاري والدارقطني .
الرابعة : قوله تعالى وكلوا واشربوا ولا تسرفوا قال ابن عباس : أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة . فأما ما تدعو الحاجة إليه ، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ ، فمندوب إليه عقلا وشرعا ، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس ; ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال ; لأنه يضعف الجسد ويميت النفس ، ويضعف عن العبادة ، وذلك يمنع منه الشرع ويدفعه العقل . وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد ; لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا . وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين : فقيل حرام ، وقيل مكروه . قال ابن العربي : وهو الصحيح ; فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان . ثم قيل : في قلة الأكل منافع كثيرة ; منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا . وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة ، ويتولد منه الأمراض المختلفة ، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل . وقال بعض الحكماء : أكبر الدواء تقدير الغذاء . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بيانا شافيا يغني عن كلام الأطباء فقال : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه . خرجه الترمذي من حديث المقدام بن معديكرب . قال [ ص: 173 ] علماؤنا : لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة . ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان . فقال له علي : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا . فقال له : ما هي ؟ قال قوله عز وجل : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا . فقال النصراني : ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب . فقال علي : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة . قال : ما هي ؟ قال : المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته . فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا . قلت : ويقال إن معالجة المريض نصفان : نصف دواء ونصف حمية : فإن اجتمعا فكأنك بالمريض قد برئ وصح . وإلا فالحمية به أولى ; إذ لا ينفع دواء مع ترك الحمية . ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء . ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصل كل دواء الحمية . والمعني بها - والله أعلم - أنها تغني عن كل دواء ; ولذلك يقال : إن الهند جل معالجتهم الحمية ، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح . الخامسة : روى مسلم عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد . وهذا منه صلى الله عليه وسلم حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة . وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته . كما قال قائلهم :
تكفيه فلذة كبد إن ألم بها     من الشواء ويروي شربه الغمر 
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله     وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا 
السادسة : وإذا تقرر هذا فاعلم أنه يستحب للإنسان غسل اليد قبل الطعام وبعده ; لقوله . عليه السلام : الوضوء قبل الطعام وبعده بركة . وكذا في التوراة . رواه زاذان عن سلمان . وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة . والاقتداء بالحديث أولى . ولا يأكل طعاما حتى يعرف أحارا هو أم باردا ؟ فإنه إن كان حارا فقد يتأذى . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبردوا بالطعام فإن الحار غير ذي بركة حديث صحيح . وقد تقدم في " البقرة " ولا يشمه فإن ذلك من عمل البهائم ، بل إن اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه ، ويصغر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يعد شرها . ويسمي الله تعالى في أوله ويحمده في آخره . ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل ; لأن في رفع الصوت منعا لهم من الأكل . وآداب الأكل كثيرة ، هذه جملة منها . وسيأتي بعضها في سورة " هود " إن شاء الله تعالى . وللشراب أيضا آداب معروفة ، تركنا ذكرها لشهرتها . وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله .
[ ص: 175 ] السابعة : قوله تعالى ولا تسرفوا أي في كثرة الأكل ، وعنه يكون كثرة الشرب ، وذلك يثقل المعدة ، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه والأخذ بحظه من نوافل الخير . فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه ، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه . روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : أكلت ثريدا بلحم سمين ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشى ; فقال : اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة . فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا ، وكان إذا تغدى لا يتعشى ، وإذا تعشى لا يتغدى . قلت : وقد يكون هذا معنى قوله عليه السلام : المؤمن يأكل في معى واحد أي التام الإيمان ; لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده ; فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته . والله أعلم . وقال ابن زيد : معنى ولا تسرفوا لا تأكلوا حراما . وقيل : " من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت " . رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، خرجه ابن ماجه في سننه . وقيل : من الإسراف الأكل بعد الشبع . وكل ذلك محظور . وقال لقمان لابنه : يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع ، فإنك أن تنبذه للكلب خير من أن تأكله . وسأل سمرة بن جندب عن ابنه ما فعل ؟ قالوا : بشم البارحة . قال : بشم ! فقالوا : نعم . قال : أما إنه لو مات ما صليت عليه . وقيل : إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم ، ويكتفون باليسير من الطعام ، ويطوفون عراة . فقيل لهم : خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم .
				
						
						
