قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله فيه ست وعشرون مسألة :
الأولى : قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي ، ومن ذلك قول الشاعر :
وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر :ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه والمحروم محروم
الثانية : هذه الآية ناسخة لأول السورة ، عند الجمهور . وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله : يسألونك عن الأنفال وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين ، على ما يأتي بيانه . وأن قوله : يسألونك عن الأنفال نزلت في حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر ، على ما تقدم أول السورة .
قلت : ومما يدل على صحة هذا ما ذكره إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان قال حدثني محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكانوا قتلوا سبعين ، وأسروا سبعين ، فجاء أبو اليسر بن عمرو بأسيرين ، فقال : يا رسول الله إنك وعدتنا من قتل قتيلا فله كذا ، وقد جئت بأسيرين . فقام سعد فقال : يا رسول الله ، إنا لم يمنعنا زيادة في الأجر ولا جبن عن العدو ولكنا قمنا هذا المقام خشية أن يعطف المشركون ، فإنك إن تعط هؤلاء لا يبق لأصحابك شيء . قال : وجعل هؤلاء يقولون وهؤلاء يقولون فنزلت يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فسلموا الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم نزلت واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية . وقد قيل : إنها محكمة غير منسوخة ، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليست مقسومة بين الغانمين ، وكذلك لمن بعده من الأئمة . كذا حكاه المازري عن كثير من أصحابنا ، رضي الله عنهم ، وأن للإمام أن يخرجها عنهم . واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين . وكان أبو عبيد يقول : افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومن على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها عليهم فيئا . ورأى بعض الناس أن هذا جائز للأئمة بعده . [ ص: 364 ]
قلت : وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه والأربعة الأخماس للإمام ، إن شاء حبسها وإن شاء قسمها بين الغانمين . وهذا ليس بشيء ، لما ذكرناه ، ولأن الله سبحانه أضاف الغنيمة للغانمين فقال : واعلموا أنما غنمتم من شيء ثم عين الخمس لمن سمى في كتابه ، وسكت عن الأربعة الأخماس ، كما سكت عن الثلثين في قوله : وورثه أبواه فلأمه الثلث فكان للأب الثلثان اتفاقا . وكذا الأربعة الأخماس للغانمين إجماعا ، على ما ذكره ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري أيضا والقاضي عياض وابن العربي . والأخبار بهذا المعنى متظاهرة ، وسيأتي بعضها . ويكون معنى قوله : يسألونك عن الأنفال الآية ، ما ينفله الإمام لمن شاء لما يراه من المصلحة قبل القسمة . وقال عطاء والحسن : هي مخصوصة بما شذ من المشركين إلى المسلمين ، من عبد أو أمة أو دابة ، يقضي فيها الإمام بما أحب . وقيل : المراد بها أنفال السرايا أي غنائمها ، إن شاء خمسها الإمام ، وإن شاء نفلها كلها . وقال إبراهيم النخعي في الإمام يبعث السرية فيصيبون المغنم : إن شاء الإمام نفله كله ، وإن شاء خمسه . وحكاه أبو عمر عن مكحول وعطاء . قال علي بن ثابت : سألت مكحولا وعطاء عن الإمام ينفل القوم ما أصابوا ، قال : ذلك لهم . قال أبو عمر : من ذهب إلى هذا تأول قول الله عز وجل : يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول أن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء . ولم ير أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه . وقيل غير هذا مما قد أتينا عليه في كتاب " القبس في شرح موطأ مالك بن أنس " . ولم يقل أحد من العلماء فيما أعلم أن قوله تعالى يسألونك عن الأنفال الآية ، ناسخ لقوله : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه بل قال الجمهور على ما ذكرنا : إن قوله : ما غنمتم ناسخ ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله تعالى . وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها . وقد قال أبو عبيد : ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلدان من جهتين : إحداهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله قد خصه من الأنفال والغنائم ما لم يجعله لغيره ، وذلك لقوله : يسألونك عن الأنفال الآية ، فنرى أن هذا كان خاصا له والجهة الأخرى أنه سن لمكة سننا ليست لشيء من البلاد . وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا : يعطي الغنائم قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ! فقال لهم : أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون [ ص: 365 ] برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم . خرجه مسلم وغيره . وليس لغيره أن يقول هذا القول ، مع أن ذلك خاص به على ما قاله بعض علمائنا . والله أعلم .
الثالثة : لم يختلف العلماء أن قوله : واعلموا أنما غنمتم من شيء ليس على عمومه ، وأنه يدخله الخصوص ، فمما خصصوه بإجماع أن قالوا : سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام . وكذلك الرقاب ، أعني الأسارى ، الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف ، على ما يأتي بيانه . ومما خص به أيضا الأرض . والمعنى : ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الأمتعة والسبي . وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية ، لما روى أبو داود عن عمر بن الخطاب أنه قال : لولا آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر . ومما يصحح هذا المذهب ما رواه الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مدها ودينارها الحديث . قال الطحاوي : " منعت " بمعنى ستمنع ، فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين ، لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز ولا درهم ، ولو كانت الأرض تقسم ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء . والله تعالى يقول : والذين جاءوا من بعدهم بالعطف على قوله : للفقراء المهاجرين . قال : وإنما يقسم ما ينقل من موضع إلى موضع . وقال الشافعي : كل ما حصل من الغنائم من أهل دار الحرب من شيء قل أو كثر من دار أو أرض أو متاع أو غير ذلك قسم ، إلا الرجال البالغين فإن الإمام فيهم مخير أن يمن أو يقتل أو يسبي . وسبيل ما أخذ منهم وسبي سبيل الغنيمة . واحتج بعموم الآية . قال : والأرض مغنومة لا محالة ، فوجب أن تقسم كسائر الغنائم . وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما افتتح عنوة من خيبر . قالوا : ولو جاز أن يدعى الخصوص في الأرض جاز أن يدعى في غير الأرض فيبطل حكم الآية . وأما آية " الحشر " فلا حجة فيها ، لأن ذلك إنما هو في الفيء لا في الغنيمة وقوله : والذين جاءوا من بعدهم استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالإيمان لا لغير ذلك . قالوا : وليس يخلو فعل عمر في توقيفه الأرض من أحد وجهين : إما أن تكون غنيمة استطاب أنفس أهلها ، وطابت بذلك فوقفها . وكذلك روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها ، وكذلك [ ص: 366 ] صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن ، لما أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كان في أيديهم . وإما أن يكون ما وقفه عمر فيئا فلم يحتج إلى مراضاة أحد . وذهب الكوفيون إلى تخيير الإمام في قسمها أو إقرارها وتوظيف الخراج عليها ، وتصير ملكا لهم كأرض الصلح . قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه : وكأن هذا جمع بين الدليلين ووسط بين المذهبين ، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعا ، ولذلك قال : لولا آخر الناس ، فلم يخبر بنسخ فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا بتخصيصه بهم ، غير أن الكوفيين زادوا على ما فعل عمر ، فإن عمر إنما وقفها على مصالح المسلمين ولم يملكها لأهل الصلح ، وهم الذين قالوا للإمام أن يملكها لأهل الصلح .
الرابعة : ذهب مالك وأبو حنيفة والثوري إلى أن السلب ليس للقاتل ، وأن حكمه حكم الغنيمة ، إلا أن يقول الأمير : من قتل قتيلا فله سلبه ، فيكون حينئذ له . وقال الليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر : السلب للقاتل على كل حال ، قاله الإمام أو لم يقله . إلا أن الشافعي رضي الله عنه قال : إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل قتيلا مقبلا عليه ، وأما إذا قتله مدبرا عنه فلا . قال أبو العباس بن سريج من أصحاب الشافعي : ليس الحديث من قتل قتيلا فله سلبه على عمومه ، لإجماع العلماء على أن من قتل أسيرا أو امرأة أو شيخا أنه ليس له سلب واحد منهم . وكذلك من ذفف على جريح ، ومن قتل من قطعت يداه ورجلاه . قال : وكذلك المنهزم لا يمتنع في انهزامه ، وهو كالمكتوف . قال : فعلم بذلك أن الحديث إنما جعل السلب لمن لقتله معنى زائد ، أو لمن في قتله فضيلة ، وهو القاتل في الإقبال ، لما في ذلك من المؤنة . وأما من أثخن فلا . وقال الطبري : السلب للقاتل ، مقبلا قتله أو مدبرا ، هاربا أو مبارزا إذا كان في المعركة . وهذا يرده ما ذكره عبد الرزاق ومحمد بن بكر عن ابن جريج قال سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول : لم نزل نسمع إذا التقى المسلمون والكفار فقتل رجل من المسلمين رجلا من الكفار فإن سلبه له إلا أن يكون في معمعة القتال ، لأنه حينئذ لا يدرى من قتل قتيلا . فظاهر هذا يرد قول الطبري لاشتراطه في السلب القتل في المعركة خاصة . وقال أبو ثور وابن المنذر : السلب للقاتل في معركة كان أو غير معركة ، في الإقبال والإدبار والهروب والانتهار ، على كل الوجوه ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلا فله [ ص: 367 ] سلبه .
قلت : روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه ، ثم انتزع طلقا من حقبه فقيد به الجمل ، ثم تقدم يتغدى مع القوم ، وجعل ينظر ، وفينا ضعفة ورقة في الظهر ، وبعضنا مشاة ، إذ خرج يشتد ، فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل ، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء . قال سلمة : وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة ، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته ، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر ، ثم جئت بالجمل أقوده ، عليه رحله وسلاحه ، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال : من قتل الرجل ؟ قالوا : ابن الأكوع . قال : له سلبه أجمع . فهذا سلمة قتله هاربا غير مقبل ، وأعطاه سلبه . وفيه حجة لمالك من أن السلب لا يستحقه القاتل إلا بإذن الإمام ، إذ لو كان واجبا له بنفس القتل لما احتاج إلى تكرير هذا القول . ومن حجته أيضا ما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو الأحوص عن الأسود بن قيس عن بشر بن علقمة قال : بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه ، فأتيت سعدا فخطب سعد أصحابه ثم قال : هذا سلب بشر بن علقمة ، فهو خير من اثني عشر ألف درهم ، وإنا قد نفلناه إياه . فلو كان السلب للقاتل قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم ما احتاج الأمر أن يضيفوا ذلك إلى أنفسهم باجتهادهم ، ولأخذه القاتل دون أمرهم . والله أعلم . وفي الصحيح أن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء ضربا أبا جهل بسيفيهما حتى قتلاه ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيكما قتله ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته . فنظر في السيفين فقال : كلاكما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح وهذا نص على أن السلب ليس للقاتل ، إذ لو كان له لقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما . وفي الصحيح أيضا عن عوف بن مالك قال : خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ، ورافقني مددي من اليمن . وساق الحديث ، وفيه : فقال عوف : يا خالد ، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ؟ [ ص: 368 ] قال : بلى ، ولكني استكثرته . وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده الذي أخرجه به مسلم ، وزاد فيه بيانا أن عوف بن مالك قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب ، وإن مدديا كان رفيقا لهم في غزوة مؤتة في طرف من الشام ، قال : فجعل رومي منهم يشتد على المسلمين وهو على فرس أشقر وسرج مذهب ومنطقة ملطخة وسيف محلى بذهب . قال : فيغري بهم ، قال : فتلطف له المددي حتى مر به فضرب عرقوب فرسه فوقع ، وعلاه بالسيف فقتله وأخذ سلاحه . قال : فأعطاه خالد بن الوليد وحبس منه ، قال عوف : فقلت له أعطه كله ، أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : السلب للقاتل ! قال : بلى ، ولكني استكثرته . قال عوف : وكان بيني وبينه كلام ، فقلت له : لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال عوف : فلما اجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عوف ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لخالد : لم لم تعطه ؟ قال فقال : استكثرته . قال : فادفعه إليه . فقلت له : ألم أنجز لك ما وعدتك ؟ قال : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا خالد لا تدفعه إليه هل أنتم تاركون لي أمرائي . فهذا يدل دلالة واضحة على أن السلب لا يستحقه القاتل بنفس القتل بل برأي الإمام ونظره . وقال أحمد بن حنبل : لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة خاصة .
الخامسة : اختلف العلماء في تخميس السلب ، فقال الشافعي : لا يخمس . وقال إسحاق : إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل ، وإن كان كثيرا خمس . وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله ، فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفا فخمس ذلك . أنس عن البراء بن مالك أنه قتل من المشركين مائة رجل إلا رجلا مبارزة ، وأنهم لما غزوا الزارة خرج دهقان الزارة فقال : رجل ورجل ، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده ، ثم أخذ السيف فذبحه ، وأخذ سلاحه ومنطقته وأتى به عمر ، فنفله السلاح وقوم المنطقة بثلاثين ألفا فخمسها ، وقال : إنها مال . وقال الأوزاعي ومكحول : السلب مغنم وفيه الخمس . وروي نحوه عن عمر بن الخطاب . والحجة للشافعي ما رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب .
[ ص: 369 ] السادسة : ذهب جمهور العلماء إلى أن السلب لا يعطى للقاتل إلا أن يقيم البينة على قتله . قال أكثرهم : ويجزئ شاهد واحد ، على حديث أبي قتادة . وقيل : شاهدان أو شاهد ويمين . وقال الأوزاعي : يعطاه بمجرد دعواه ، وليست البينة : شرطا في الاستحقاق ، بل إن اتفق ذلك فهو الأولى دفعا للمنازعة . ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا قتادة سلب مقتول من غير شهادة ولا يمين . ولا تكفي شهادة واحد ، ولا يناط بها حكم بمجردها . وبه قال الليث بن سعد .
قلت : سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبد العظيم يقول : إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السلب بشهادة الأسود بن خزاعي وعبد الله بن أنيس . وعلى هذا يندفع النزاع ويزول الإشكال ، ويطرد الحكم . وأما المالكية فيخرج على قولهم أنه لا يحتاج الإمام فيه إلى بينة ، لأنه من الإمام ابتداء عطية ، فإن شرط الشهادة كان له ، وإن لم يشترط جاز أن يعطيه من غير شهادة .
السابعة : واختلفوا في السلب ما هو ، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا خلاف أنه من السلب ، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه . وقال أحمد في الفرس : ليس من السلب . وكذلك إن كان في هميانه وفي منطقته دنانير أو جواهر أو نحو هذا ، فلا خلاف أنه ليس من السلب . واختلفوا فيما يتزين به للحرب ، فقال الأوزاعي : ذلك كله من السلب . وقالت فرقة : ليس من السلب . وهذا مروي عن سحنون رحمه الله ، إلا المنطقة فإنها عنده من السلب . وقال ابن حبيب في الواضحة : والسواران من السلب .
الثامنة : قوله تعالى فأن لله خمسه قال أبو عبيد : هذا ناسخ لقوله عز وجل في أول السورة قل الأنفال لله والرسول ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر ، فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذا . إلا أنه يظهر من قول علي رضي الله عنه في صحيح مسلم " كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس يومئذ " الحديث - أنه خمس ، فإن كان هذا فقول أبي عبيد مردود . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكر علي من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد ، فقد كانت غزوة بني سليم وغزوة بني المصطلق وغزوة ذي أمر وغزوة بحران ، ولم يحفظ فيها قتال ، ولكن يمكن أن غنمت غنائم . والله أعلم .
[ ص: 370 ] قلت : وهذا التأويل يرده قول علي يومئذ ، وذلك إشارة إلى يوم قسم غنائم بدر ، إلا أنه يحتمل أن يكون من الخمس إن كان لم يقع في بدر تخميس ، من خمس سرية عبد الله بن جحش فإنها أول غنيمة غنمت في الإسلام ، وأول خمس كان في الإسلام ، ثم نزل القرآن واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه . وهذا أولى من التأويل الأول . والله أعلم .
التاسعة ما في قوله ما غنمتم بمعنى الذي والهاء محذوفة ، أي الذي غنمتموه . ودخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة . و أن الثانية توكيد للأولى ، ويجوز كسرها ، وروي عن أبي عمرو . قال الحسن : هذا مفتاح كلام ، الدنيا والآخرة لله ، ذكره النسائي . واستفتح عز وجل الكلام في الفيء والخمس بذكر نفسه ، لأنهما أشرف الكسب ، ولم ينسب الصدقة إليه لأنها أوساخ الناس .
العاشرة : واختلف العلماء في كيفية قسم الخمس على أقوال ستة :
الأول : قالت طائفة : يقسم الخمس على ستة ، فيجعل السدس للكعبة ، وهو الذي لله . والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم . والثالث لذوي القربى . والرابع لليتامى . والخامس للمساكين . والسادس لابن السبيل . وقال بعض أصحاب هذا القول : يرد السهم الذي لله على ذوي الحاجة .
الثاني : قال أبو العالية والربيع : تقسم الغنيمة على خمسة ، فيعزل منها سهم واحد ، وتقسم الأربعة على الناس ، ثم يضرب بيده على السهم الذي عزله فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة ، سهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل .
الثالث : قال المنهال بن عمرو : سألت عبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقال : هو لنا . قلت لعلي : إن الله تعالى يقول : واليتامى والمساكين وابن السبيل فقال : أيتامنا ومساكيننا .
الرابع : قال الشافعي : يقسم على خمسة . ورأى أن سهم الله ورسوله واحد ، وأنه يصرف في مصالح المؤمنين ، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية .
[ ص: 371 ] الخامس : قال أبو حنيفة : يقسم على ثلاثة : اليتامى والمساكين وابن السبيل . وارتفع عنده حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته ، كما ارتفع حكم سهمه . قالوا : ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر ، وبناء المساجد ، وأرزاق القضاة والجند ، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضا .
السادس : قال مالك : هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده ، فيأخذ منه من غير تقدير ، ويعطي منه القرابة باجتهاد ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين . وبه قال الخلفاء الأربعة ، وبه عملوا . وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم : ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم . فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا ، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم ، لأنهم من أهم من يدفع إليه . قال الزجاج محتجا لمالك : قال الله عز وجل : يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وللرجل جائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك . وذكر النسائي عن عطاء قال : خمس الله وخمس رسوله واحد ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء .
الحادية عشرة : ولذي القربى ليست اللام لبيان الاستحقاق والملك ، وإنما هي لبيان المصرف والمحل . والدليل عليه ما رواه مسلم أن الفضل بن عباس وربيعة بن عبد المطلب أتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فتكلم أحدهما فقال : يا رسول الله ، أنت أبر الناس ، وأوصل الناس ، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات ، فنؤدي إليك كما يؤدي الناس ، ونصيب كما يصيبون . فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه ، قال : وجعلت زينب تلمع إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه ، قال : ثم قال : إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ادعوا لي محمية - وكان على الخمس - ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب . قال : فجاءاه فقال لمحمية : أنكح هذا الغلام ابنتك - للفضل بن عباس - فأنكحه . وقال لنوفل بن الحارث : أنكح هذا الغلام ابنتك - يعني ربيعة بن عبد المطلب . وقال لمحمية : أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا . وقال صلى الله عليه وسلم : ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس [ ص: 372 ] والخمس مردود عليكم . وقد أعطى جميعه وبعضه ، وأعطى منه المؤلفة قلوبهم ، وليس ممن ذكرهم الله في التقسيم ، فدل على ما ذكرناه ، والموفق الإله .
الثانية عشرة : واختلف العلماء في ذوي القربى على ثلاثة أقوال : قريش كلها ، قاله بعض السلف ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد الصفا جعل يهتف : يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب يا بني كعب يا بني مرة يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار الحديث . وسيأتي في " الشعراء " . وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد : بنو هاشم وبنو عبد المطلب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب قال : إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه ، أخرجه النسائي والبخاري . قال البخاري : قال الليث حدثني يونس ، وزاد : ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا . قال ابن إسحاق : وعبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم ، وأمهم عاتكة بنت مرة . وكان نوفل أخاهم لأبيهم . قال النسائي : وأسهم النبي صلى الله عليه وسلم لذوي القربى ، وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، بينهم الغني والفقير . وقد قيل : إنه للفقير منهم دون الغني ، كاليتامى وابن السبيل - وهو أشبه القولين بالصواب عندي . والله أعلم - والصغير والكبير والذكر والأنثى سواء ، لأن الله تعالى جعل ذلك لهم ، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم . وليس في الحديث أنه فضل بعضهم على بعض . الثالث : بنو هاشم خاصة ، قاله مجاهد وعلي بن الحسين . وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم .
الثالثة عشرة : لما بين الله عز وجل حكم الخمس وسكت عن الأربعة الأخماس ، دل ذلك على أنها ملك للغانمين . وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم . وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة ، على ما [ ص: 373 ] حكاه ابن العربي في أحكامه ، وغيره . بيد أن الإمام إن رأى أن يمن على الأسارى بالإطلاق فعل ، وبطلت حقوق الغانمين فيهم ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بثمامة بن أثال وغيره ، وقال : لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى - يعني أسارى بدر - لتركتهم له . أخرجه البخاري . مكافأة له لقيامه في شأن نقض الصحيفة . وله أن يقتل جميعهم ، وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط من بين الأسرى صبرا ، وكذلك النضر بن الحارث قتله بالصفراء صبرا ، وهذا ما لا خلاف فيه . وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم الغانمين ، حضر أو غاب . وسهم الصفي ، يصطفي سيفا أو سهما أو خادما أو دابة . وكانت صفية بنت حيي من الصفي من غنائم خيبر . وكذلك ذو الفقار كان من الصفي . وقد انقطع بموته ، إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقيا للإمام يجعله مجعل سهم النبي صلى الله عليه وسلم . وكانت الحكمة في ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يرون للرئيس ربع الغنيمة . قال شاعرهم :
لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول
منا الذي ربع الجيوش ، لصلبه عشرون وهو يعد في الأحياء
يقال : ربع الجيش يربعه رباعة إذا أخذ ربع الغنيمة . قال الأصمعي : ربع في الجاهلية وخمس في الإسلام ، فكان يأخذ بغير شرع ولا دين الربع من الغنيمة ، ويصطفي منها ، ثم يتحكم بعد الصفي في أي شيء أراد ، وكان ما شذ منها وما فضل من خرثي ومتاع له . فأحكم الله سبحانه الدين بقوله : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وأبقى سهم الصفي لنبيه صلى الله عليه وسلم وأسقط حكم الجاهلية . وقال عامر الشعبي : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا أو أمة أو فرسا يختاره قبل الخمس ، أخرجه أبو داود . وفي حديث أبي هريرة قال فيلقى العبد فيقول : أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل [ ص: 374 ] والإبل وأذرك ترأس وتربع الحديث . أخرجه مسلم . " تربع " بالباء الموحدة من تحتها : تأخذ المرباع ، أي الربع مما يحصل لقومك من الغنائم والكسب . وقد ذهب بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه إلى أن خمس الخمس كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفه في كفاية أولاده ونسائه ، ويدخر من ذلك قوت سنته ، ويصرف الباقي في الكراع والسلاح . وهذا يرده ما رواه عمر قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء - الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فكان ينفق على نفسه منها قوت سنة ، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله . أخرجه مسلم . وقال : والخمس مردود عليكم .
الرابعة عشرة : ليس في كتاب الله تعالى دلالة على تفضيل الفارس على الراجل ، بل فيه أنهم سواء ، لأن الله تعالى جعل الأربعة أخماس لهم ولم يخص راجلا من فارس . ولولا الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان الفارس كالراجل ، والعبد كالحر ، والصبي كالبالغ . وقد اختلف العلماء في قسمة الأربعة الأخماس ، فالذي عليه عامة أهل العلم فيما ذكر ابن المنذر أنه يسهم للفارس سهمان ، وللراجل سهم . وممن قال ذلك مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة . وكذلك قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام . وكذلك قال الثوري ومن وافقه من أهل العراق . وهو قول الليث بن سعد ومن تبعه من أهل مصر . وكذلك قال الشافعي رضي الله عنه وأصحابه . وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور ويعقوب ومحمد . قال ابن المنذر : ولا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا النعمان فإنه خالف فيه السنن وما عليه جل أهل العلم في القديم والحديث . قال : لا يسهم للفارس إلا سهم واحد .
قلت : ولعله شبه عليه بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين ، وللراجل سهما . خرجه الدارقطني وقال : قال الرمادي كذا يقول ابن نمير قال لنا النيسابوري : هذا عندي وهم من ابن أبي شيبة أو من الرمادي ، لأن أحمد بن حنبل [ ص: 375 ] وعبد الرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن عمر رضي الله عنهما بخلاف هذا ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم ، سهما له وسهمين لفرسه ، هكذا رواه عبد الرحمن بن بشر عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ، وذكر الحديث . وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما . وهذا نص . وقد روى الدارقطني عن الزبير قال : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أسهم يوم بدر ، سهمين لفرسي وسهما لي وسهما لأمي من ذوي القرابة . وفي رواية : وسهما لأمه سهم ذوي القربى . وخرج عن بشير بن عمرو بن محصن قال : أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسي أربعة أسهم ، ولي سهما ، فأخذت خمسة أسهم . وقيل إن ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام ، فينفذ ما رأى . والله أعلم .
الخامسة عشرة : لا يفاضل بين الفارس والراجل بأكثر من فرس واحد ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : يسهم لأكثر من فرس واحد ، لأنه أكثر عناء وأعظم منفعة ، وبه قال ابن الجهم من أصحابنا ، ورواه سحنون عن ابن وهب . ودليلنا أنه لم ترد رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسهم لأكثر من فرس واحد ، وكذلك الأئمة بعده ، ولأن العدو لا يمكن أن يقاتل إلا على فرس واحد ، وما زاد على ذلك فرفاهية وزيادة عدة ، وذلك لا يؤثر في زيادة السهمان ، كالذي معه زيادة سيوف أو رماح ، واعتبارا بالثالث والرابع . وقد روي عن سليمان بن موسى أنه يسهم لمن كان عنده أفراس ، لكل فرس سهم .
السادسة عشرة : لا يسهم إلا للعتاق من الخيل ، لما فيها من الكر والفر ، وما كان من البراذين والهجن بمثابتها في ذلك . وما لم يكن كذلك لم يسهم له . وقيل : إن أجازها الإمام أسهم لها ، لأن الانتفاع بها يختلف بحسب الموضع ، فالهجن والبراذين تصلح للمواضع المتوعرة كالشعاب والجبال ، والعتاق تصلح للمواضع التي يتأتى فيها الكر والفر ، فكان ذلك متعلقا برأي الإمام . والعتاق : خيل العرب . والهجن والبراذين : خيل الروم .
السابعة عشرة : واختلف علماؤنا في الفرس الضعيف ، فقال أشهب وابن نافع : لا [ ص: 376 ] يسهم له ، لأنه لا يمكن القتال عليه فأشبه الكسير . وقيل : يسهم له لأنه يرجى برؤه . ولا يسهم للأعجف إذا كان في حيز ما لا ينتفع به ، كما لا يسهم للكسير . فأما المريض مرضا خفيفا مثل الرهيص ، وما يجري مجراه مما لا يمنعه المرض عن حصول المنفعة المقصودة منه فإنه يسهم له . ويعطى الفرس المستعار والمستأجر ، وكذلك المغصوب ، وسهمه لصاحبه . ويستحق السهم للخيل وإن كانت في السفن ووقعت الغنيمة في البحر ، لأنها معدة للنزول إلى البر .
الثامنة عشرة : لا حق في الغنائم للحشوة كالأجراء والصناع الذين يصحبون الجيش للمعاش ، لأنهم لم يقصدوا قتالا ولا خرجوا مجاهدين . وقيل : يسهم لهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : الغنيمة لمن شهد الوقعة . أخرجه البخاري . وهذا لا حجة فيه لأنه جاء بيانا لمن باشر الحرب وخرج إليه ، وكفى ببيان الله عز وجل المقاتلين وأهل المعاش من المسلمين حيث جعلهم فرقتين متميزتين ، لكل واحدة حالها في حكمها ، فقال : علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله إلا أن هؤلاء إذا قاتلوا لا يضرهم كونهم على معاشهم ، لأن سبب الاستحقاق قد وجد منهم . وقال أشهب : لا يستحق أحد منهم وإن قاتل ، وبه قال ابن القصار في الأجير : لا يسهم له وإن قاتل . وهذا يرده حديث سلمة بن الأكوع قال : كنت تبيعا لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحسه وأخدمه وآكل من طعامه ، الحديث . وفيه : ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين ، سهم الفارس وسهم الراجل ، فجمعهما لي . خرجه مسلم . واحتج ابن القصار ومن قال بقوله بحديث عبد الرحمن بن عوف ، ذكره عبد الرزاق ، وفيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن : هذه الثلاثة الدنانير حظه ونصيبه من غزوته في أمر دنياه وآخرته . [ ص: 377 ]
التاسعة عشرة : فأما العبيد والنساء فمذهب الكتاب أنه لا يسهم لهم ولا يرضخ . وقيل : يرضخ لهم ، وبه قال جمهور العلماء . وقال الأوزاعي : إن قاتلت المرأة أسهم لها . وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء يوم خيبر . قال : وأخذ المسلمون بذلك عندنا . وإلى هذا القول مال ابن حبيب من أصحابنا . خرج مسلم عن ابن عباس أنه كان في كتابه إلى نجدة : تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء ؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة ، وأما بسهم فلم يضرب لهن . وأما الصبيان فإن كان مطيقا للقتال ففيه عندنا ثلاثة أقوال : الإسهام ونفيه حتى يبلغ ، لحديث ابن عمر ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي . والتفرقة بين أن يقاتل فيسهم له أو يقاتل فلا يسهم له . والصحيح الأول ، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أن يقتل منهم من أنبت ويخلى منهم من لم ينبت . وهذه مراعاة لإطاقة القتال لا للبلوغ . وقد روى أبو عمر في الاستيعاب عن سمرة بن جندب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الغلمان من الأنصار فيلحق من أدرك منهم ، فعرضت عليه عاما فألحق غلاما وردني ، فقلت : يا رسول الله ، ألحقته ورددتني ، ولو صارعني صرعته قال : فصارعني فصرعته فألحقني . وأما العبيد فلا يسهم لهم أيضا ويرضخ لهم .
الموفية العشرين : الكافر إذا حضر بإذن الإمام وقاتل ففي الإسهام له عندنا ثلاثة أقوال : الإسهام ونفيه ، وبه قال مالك وابن القاسم . زاد ابن حبيب : ولا نصيب لهم . ويفرق في الثالث - وهو لسحنون - بين أن يستقل المسلمون بأنفسهم فلا يسهم له ، أو لا يستقلوا ويفتقروا إلى معونته فيسهم له . فإن لم يقاتل فلا يستحق شيئا . وكذلك العبيد مع الأحرار . وقال الثوري والأوزاعي : إذا استعين بأهل الذمة أسهم لهم . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يسهم لهم ، ولكن يرضخ لهم . وقال الشافعي رضي الله عنه : يستأجرهم الإمام من مال لا مالك له بعينه . فإن لم يفعل أعطاهم سهم النبي صلى الله عليه وسلم . وقال في موضع آخر : يرضخ للمشركين إذا قاتلوا مع المسلمين . قال أبو عمر : اتفق الجميع أن العبد ، وهو ممن يجوز أمانه ، إذا قاتل لم يسهم له ولكن يرضخ ، فالكافر بذلك أولى ألا يسهم له .
الحادية والعشرون : لو خرج العبد وأهل الذمة لصوصا وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس ، لأنه لم يدخل في عموم قوله عز وجل : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه [ ص: 378 ] أحد منهم ولا من النساء . فأما الكفار فلا مدخل لهم من غير خلاف . وقال سحنون . لا يخمس ما ينوب العبد . وقال ابن القاسم : يخمس ، لأنه يجوز أن يأذن له سيده في القتال ويقاتل على الدين ، بخلاف الكافر . وقال أشهب في كتاب محمد : إذا خرج العبد والذمي من الجيش وغنما فالغنيمة للجيش دونهم .
الثانية والعشرون : سبب استحقاق السهم شهود الوقعة لنصر المسلمين ، على ما تقدم . فلو شهد آخر الوقعة استحق . ولو حضر بعد انقضاء القتال فلا . ولو غاب بانهزام فكذلك . فإن كان قصد التحيز إلى فئة فلا يسقط استحقاقه . روى البخاري وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد ، فقدم أبان بن سعيد وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد أن فتحها ، وإن حزم خيلهم ليف ، فقال أبان : اقسم لنا يا رسول الله . قال أبو هريرة : فقلت لا تقسم لهم يا رسول الله . فقال أبان : أنت بها يا وبر تحدر علينا من رأس ضال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجلس يا أبان ولم يقسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالثة والعشرون : واختلف العلماء فيمن خرج لشهود الوقعة فمنعه العذر منه كمرض ، ففي ثبوت الإسهام له ونفيه ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث ، وهو المشهور ، فيثبته إن كان الضلال قبل القتال وبعد الإدراب ، وهو الأصح ، قاله ابن العربي . وينفيه إن كان قبله . وكمن بعثه الأمير من الجيش في أمر من مصلحة الجيش فشغله ذلك عن شهود الوقعة فإنه يسهم له ، قاله ابن المواز ، ورواه ابن وهب وابن نافع عن مالك . وروي لا يسهم له بل يرضخ له لعدم السبب الذي يستحق به السهم ، والله أعلم . وقال أشهب : يسهم للأسير وإن كان في الحديد . والصحيح أنه لا يسهم له ، لأنه ملك مستحق بالقتال ، فمن غاب أو حضر مريضا كمن لم يحضر .
الرابعة والعشرون : الغائب المطلق لا يسهم له ، ولم يسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغائب قط [ ص: 379 ] إلا يوم خيبر ، فإنه أسهم لأهل الحديبية من حضر منهم ومن غاب ، لقول الله عز وجل : وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ، قاله موسى بن عقبة . وروي ذلك عن جماعة من السلف . وقسم يوم بدر لعثمان ولسعيد بن زيد وطلحة ، وكانوا غائبين ، فهم كمن حضرها إن شاء الله تعالى . فأما عثمان فإنه تخلف على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره من أجل مرضها . فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ، فكان كمن شهدها . وأما طلحة بن عبيد الله فكان بالشام في تجارة فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ، فيعد لذلك في أهل بدر . وأما سعيد بن زيد فكان غائبا بالشام أيضا فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره . فهو معدود في البدريين . قال ابن العربي : أما أهل الحديبية فكان ميعادا من الله اختص به أولئك النفر فلا يشاركهم فيه غيرهم . وأما عثمان وسعيد وطلحة فيحتمل أن يكون أسهم لهم من الخمس ، لأن الأمة مجمعة على أن من بقي لعذر فلا يسهم له .
قلت : الظاهر أن ذلك مخصوص بعثمان وطلحة وسعيد فلا يقاس عليهم غيرهم . وأن سهمهم كان من صلب الغنيمة كسائر من حضرها لا من الخمس . هذا الظاهر من الأحاديث والله أعلم . وقد روى البخاري عن ابن عمر قال : لما تغيب عثمان عن بدر فإنه كان تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه .
الخامسة والعشرون قوله تعالى إن كنتم آمنتم بالله قال الزجاج عن فرقة : المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم ، ف ( إن ) متعلقة بهذا الوعد . وقالت فرقة : إن ( إن ) متعلقة بقوله واعلموا أنما غنمتم . قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح ، لأن قوله واعلموا يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم ، فعلق إن بقوله : واعلموا على هذا المعنى ، أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة .
السادسة والعشرون : وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ما في موضع [ ص: 380 ] خفض عطف على اسم الله يوم الفرقان أي اليوم الذي فرقت فيه بين الحق والباطل ، وهو يوم بدر .
يوم التقى الجمعان حزب الله وحزب الشيطان . والله على كل شيء قدير


