قوله تعالى : قالت ياأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين    . 
فيه ست مسائل : 
قالت يا أيها الملأ  في الكلام حذف ; والمعنى : فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهي تقول : يا أيها الملأ  ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان  عليه السلام ; وهذا قول ابن زيد    . وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم ، فكرامة الكتاب ختمه ; وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : لأنه بدأ فيه ب بسم الله الرحمن الرحيم  وقد قال صلى الله عليه وسلم : كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم   . وقيل : لأنه بدأ فيه بنفسه ، ولا يفعل ذلك إلا الجلة . وفي حديث ابن   [ ص: 179 ] عمر  أنه كتب إلى  عبد الملك بن مروان  يبايعه . من عبد الله   لعبد الملك بن مروان  أمير المؤمنين ; إني أقر لك بالسمع والطاعة ما استطعت ، وإن بني قد أقروا لك بذلك   . وقيل : توهمت أنه كتاب جاء من السماء إذ كان الموصل طيرا . وقيل : ( كريم ) : حسن ; كقوله : ومقام كريم  أي مجلس حسن . وقيل : وصفته بذلك ; لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل ، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا ، ولا ما يغير النفس ، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق ; على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عز وجل ; ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة  وقوله لموسى  وهارون    : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى    . وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها . وقد روي أنه لم يكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أحد قبل سليمان    . وفي قراءة عبد الله    ( وإنه من سليمان    ) بزيادة واو . 
الثانية : الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف ; ألا ترى قوله تعالى : إنه لقرآن كريم  وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالأثير وبالمبرور ; فإن كان لملك قالوا : العزيز . وأسقطوا الكريم غفلة ، وهو أفضلها خصلة . فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله تعالى : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه  فهذه عزته وليست لأحد إلا له ، فاجتنبوها في كتبكم ، واجعلوا بدلها العالي ; توفية لحق الولاية ، وحياطة للديانة ; قاله  القاضي أبو بكر بن العربي    . 
الثالثة : كان رسم المتقدمين إذا كتبوا أن يبدءوا بأنفسهم : من فلان إلى فلان ، وبذلك جاءت الآثار . وروىالربيع  عن أنس  قال : ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أصحابه إذا كتبوا بدءوا بأنفسهم   . وقال ابن سيرين  قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أهل فارس  إذا كتبوا بدءوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه قال أبو الليث  في كتاب ( البستان ) له : ولو بدأ   [ ص: 180 ] بالمكتوب إليه لجاز ; لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك ، أو نسخ ما كان من قبل ; فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه ، ثم بنفسه ; لأن البداية بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه ; إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده ، أو غلام من غلمانه . 
الرابعة : وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب ; لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر . وروي عن ابن عباس  أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام   . والله أعلم . 
الخامسة : اتفقوا على كتب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في أول الكتب والرسائل  ، وعلى ختمها ; لأنه أبعد من الريبة ، وعلى هذا جرى الرسم ، وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب  أنه قال : أيما كتاب لم يكن مختوما فهو أغلف   . وفي الحديث : كرم الكتاب ختمه   . وقال بعض الأدباء ; هو ابن المقفع    : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به ; لأن الختم ختم . وقال أنس    : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم فقيل له : إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه ختم ; فاصطنع خاتما ونقش على فصه لا إله إلا الله محمد  رسول الله . وكأني أنظر إلى وبيصه وبياضه في كفه   . 
السادسة : قوله تعالى : إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم     ( وإنه ) بالكسر فيهما أي وإن الكلام ، أو إن مبتدأ الكلام بسم الله الرحمن الرحيم    . وأجاز الفراء ( أنه من سليمان وأنه ) بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بدل من ( الكتاب ) ; بمعنى ألقي إلي أنه من سليمان    . وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض ; أي لأنه من سليمان  ولأنه ; كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان  وتصديره بسم الله . وقرأ الأشهب العقيلي  ومحمد بن السميقع    : ( ألا تغلوا ) بالغين المعجمة ، وروي عن  وهب بن منبه    ; من غلا يغلو : إذا تجاوز وتكبر . وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة . وأتوني مسلمين  أي منقادين طائعين مؤمنين . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					