قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب    . 
فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : إنا جعلناك خليفة في الأرض  أي ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين . وقد مضى في [ البقرة ] القول في الخليفة وأحكامه مستوفى ، والحمد لله . 
الثانية : قوله تعالى : فاحكم بين الناس بالحق  أي بالعدل ، وهو أمر على الوجوب ، وقد ارتبط هذا بما قبله ، وذلك أن الذي عوتب عليه داود  طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك   [ ص: 170 ] بعدل . فقيل له بعد هذا : فاحكم بين الناس بالعدل ولا تتبع الهوى  أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله . فيضلك عن سبيل الله  أي عن طريق الجنة . إن الذين يضلون عن سبيل الله  أي يحيدون عنها ويتركونها لهم عذاب شديد  في النار بما نسوا يوم الحساب  أي بما تركوا من سلوك طريق الله ، فقوله : نسوا أي : تركوا الإيمان به ، أو تركوا العمل به فصاروا كالناسين . ثم قيل : هذا لداود  لما أكرمه الله بالنبوة . وقيل : بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته . 
الثالثة : الأصل في الأقضية قوله تعالى : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق  وقوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله  وقوله تعالى : لتحكم بين الناس بما أراك الله  وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط  الآية . وقد تقدم الكلام فيه . 
الرابعة : قال ابن عباس  في قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله  قال : إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى ، فلا تشته في نفسك الحق له ليفلج على صاحبه ، فإن فعلت محوت اسمك من نبوتي ، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي . فدل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق ، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع ، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أوصداقة ، أو غيرهما . وقال ابن عباس    : إنما ابتلي سليمان بن داود  عليه السلام ; لأنه تقدم إليه خصمان فهوي أن يكون الحق لأحدهما   . وقال عبد العزيز بن أبي رواد    : بلغني أن قاضيا كان في زمن بني إسرائيل  ، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علما ، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك ، وإذا هو قصر عرف ذلك ، فقيل له : ادخل منزلك ، ثم مد يدك في جدارك ، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطا ، فإذا أنت قمت من مجلس القضاء ، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه ، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه ، وإن قصرت عن الحق قصر بك ، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق ، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاما ولا شرابا ، ولم يفض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط ، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل أو مطعم أو مشرب . فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء ، أقبل إليه رجلان يريدانه : فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه ، وكان أحدهما له صديقا وخدنا ، فتحرك قلبه عليه   [ ص: 171 ] محبة أن يكون الحق له فيقضي له ، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه ، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم ، فمد يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف ، وإذا هو لا يبلغه ، فخر ساجدا وهو يقول : يا رب شيئا لم أتعمده ولم أرده ، فبينه لي . فقيل له : أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك ، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به ، قد أردته وأحببته ، ولكن الله قد رد الحق إلى أهله وأنت كاره   . وعن ليث  قال : تقدم إلى عمر بن الخطاب  خصمان فأقامهما ، ثم عادا فأقامهما ، ثم عادا ففصل بينهما ، فقيل له في ذلك ، فقال : تقدما إلي فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه ، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك ، ثم عادا فوجدت بعض ذلك له ، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما   . وقال الشعبي    : كان بين عمر  وأبي  خصومة ، فتقاضيا إلى  زيد بن ثابت  ، فلما دخلا عليه أشار لعمر  إلى وسادته ، فقال عمر    : هذا أول جورك ، أجلسني وإياه مجلسا واحدا ، فجلسا بين يديه   . 
الخامسة : هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه   ; لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به . ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر ،  قال : لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري   . وروي أن امرأة جاءت إلى عمر  فقالت له : احكم لي على فلان بكذا ، فإنك تعلم ما لي عنده . فقال لها : إن أردت أن أشهد لك فنعم ، وأما الحكم فلا   . وفي صحيح مسلم  عن ابن عباس    : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد ، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اشترى فرسا فجحده البائع ، فلم يحكم عليه بعلمه وقال : من يشهد لي ؟ فقام خزيمة  فشهد فحكم . خرج الحديث أبو داود  وغيره ، وقد مضى في [ البقرة ] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					