قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين
قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم . وحذف حرف العطف ، ولم يقل : وكمثل الشيطان ; لأن حذف حرف العطف كثير كما تقول : أنت عاقل أنت كريم أنت عالم . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=865108أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر ، راهب تركت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها ، فزين له الشيطان فوطئها فحملت ، ثم قتلها خوفا أن يفتضح ، فدل الشيطان قومها على موضعها ، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه ، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم ، فسجد له فتبرأ منه فأسلمه . ذكره
القاضي إسماعيل nindex.php?page=showalam&ids=16604وعلي بن المديني عن
سفيان بن عيينة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار عن
عروة بن عامر عن
عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر خبره مطولا
ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=17285ووهب بن منبه . ولفظهما مختلف . قال
ابن عباس في قوله تعالى : كمثل الشيطان : كان راهب في الفترة يقال له :
برصيصا ; قد تعبد في صومعته سبعين سنة ، لم يعص الله فيها طرفة عين ، حتى أعيا إبليس ، فجمع إبليس مردة الشياطين فقال : ألا أجد منكم من يكفيني أمر
برصيصا ؟ فقال الأبيض ، وهو صاحب الأنبياء ، وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم في صورة
جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي ، فجاء
جبريل فدخل بينهما ، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى
الهند فذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=20ذي قوة عند ذي العرش مكين فقال : أنا
[ ص: 35 ] أكفيكه ; فانطلق فتزيا بزي الرهبان ، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة
برصيصا فناداه فلم يجبه ; وكان لا ينفتل من صلاته إلا في كل عشرة أيام يوما ، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام ; وكان يواصل العشرة الأيام والعشرين والأكثر ; فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته ; فلما انفتل
برصيصا من صلاته ، رأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان ; فندم حين لم يجبه ، فقال : ما حاجتك ؟ فقال : أن أكون معك ، فأتأدب بأدبك ، وأقتبس من عملك ، ونجتمع على العبادة ; فقال : إني في شغل عنك ; ثم أقبل على صلاته ; وأقبل الأبيض أيضا على الصلاة ; فلما رأى
برصيصا شدة اجتهاده وعبادته قال له : ما حاجتك ؟ فقال : أن تأذن لي فأرتفع إليك . فأذن له فأقام الأبيض معه حولا لا يفطر إلا في كل أربعين يوما يوما واحدا ، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما ، وربما مد إلى الثمانين ; فلما رأى
برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه . ثم قال الأبيض : عندي دعوات يشفي الله بها السقيم والمبتلى والمجنون ; فعلمه إياها . ثم جاء إلى إبليس فقال : قد والله أهلكت الرجل . ثم تعرض لرجل فخنقه ، ثم قال لأهله - وقد تصور في صورة الآدميين - : إن بصاحبكم جنونا أفأطبه ؟ قالوا : نعم . فقال : لا أقوى على جنيته ، ولكن اذهبوا به إلى
برصيصا ، فإن عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب ; فجاءوه فدعا بتلك الدعوات ، فذهب عنه الشيطان . ثم جعل الأبيض يفعل بالناس ذلك ويرشدهم إلى
برصيصا فيعافون . فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة ، وكان أبوهم ملكا فمات واستخلف أخاه ، وكان عمها ملكا في
بني إسرائيل فعذبها وخنقها . ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب ليعالجها فقال : إن شيطانها مارد لا يطاق ، ولكن اذهبوا بها إلى
برصيصا فدعوها عنده ، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرئت ; فقالوا : لا يجيبنا إلى هذا ; قال : فابنوا صومعة في جانب صومعته ثم ضعوها فيها ، وقولوا : هي أمانة عندك فاحتسب فيها . فسألوه ذلك فأبى ، فبنوا صومعة ووضعوا فيها الجارية ; فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده ، فجاءها الشيطان فخنقها فانفتل من صلاته ودعا لها فذهب عنها الشيطان ، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها . وكان يكشف عنها ويتعرض بها
لبرصيصا ، ثم جاءه الشيطان فقال : ويحك ! واقعها ، فما تجد مثلها ثم تتوب بعد ذلك . فلم يزل به حتى واقعها فحملت وظهر حملها . فقال له الشيطان : ويحك ! قد افتضحت . فهل لك أن تقتلها ثم تتوب فلا تفتضح ، فإن جاءوك وسألوك فقل جاءها شيطانها فذهب بها . فقتلها
برصيصا ودفنها ليلا ; فأخذ الشيطان طرف ثوبها حتى بقي خارجا من التراب ; ورجع
برصيصا إلى صلاته . ثم جاء الشيطان إلى إخوتها في المنام فقال : إن
برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا ، وقتلها ودفنها في جبل كذا وكذا ; فاستعظموا
[ ص: 36 ] ذلك وقالوا
لبرصيصا : ما فعلت أختنا ؟ فقال : ذهب بها شيطانها ; فصدقوه وانصرفوا . ثم جاءهم الشيطان في المنام وقال : إنها مدفونة في موضع كذا وكذا ، وإن طرف ردائها خارج من التراب ; فانطلقوا فوجدوها ، فهدموا صومعته وأنزلوه وخنقوه ، وحملوه إلى الملك فأقر على نفسه فأمر بقتله . فلما صلب قال الشيطان : أتعرفني ؟ قال : لا والله ، قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات ، أما اتقيت الله أما استحيت وأنت أعبد
بني إسرائيل ثم لم يكفك صنيعك حتى فضحت نفسك ، وأقررت عليها وفضحت أشباهك من الناس ، فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك بعدك . فقال : كيف أصنع ؟ قال : تطيعني في خصلة واحدة وأنجيك منهم وآخذ بأعينهم . قال : وما ذاك ؟ قال : تسجد لي سجدة واحدة ; فقال : أنا أفعل ; فسجد له من دون الله . فقال : يا
برصيصا ، هذا أردت منك ; كان عاقبة أمرك أن كفرت بربك ، إني بريء منك ، إني أخاف الله رب العالمين . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه : إن عابدا كان في
بني إسرائيل ، وكان من أعبد أهل زمانه ، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت ، وكانت بكرا ، ليست لهم أخت غيرها ، فخرج البعث على ثلاثتهم ، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم ، ولا عند من يأمنون عليها ، ولا عند من يضعونها . قال : فاجتمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد
بني إسرائيل ، وكان ثقة في أنفسهم ، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده ، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يقفلوا من غزاتهم ، فأبى ذلك عليهم وتعوذ بالله منهم ومن أختهم . قال : فلم يزالوا به حتى أطاعهم ، فقال : أنزلوها في بيت حذاء صومعتي ، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها ، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا ، ينزل إليها الطعام من صومعته ، فيضعه عند باب الصومعة ، ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته ، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام . قال : فتلطف له الشيطان فلم يزل يرغبه في الخير ، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارا ، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها . قال : فلبث بذلك زمانا ، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والأجر ، وقال له : لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك ; قال : فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها ، قال : فلبث بذلك زمانا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه ، وقال : لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك ، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة . قال : فلم يزل به حتى حدثها زمانا يطلع عليها من فوق صومعته . قال : ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال : لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها
[ ص: 37 ] وتقعد على باب بيتها فتحدثك كان آنس لها . فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها ، وتخرج الجارية من بيتها ، فلبثا زمانا يتحدثان ، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها ، وقال : لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من باب بيتها كان آنس لها . فلم يزل به حتى فعل . قال : فلبثا زمانا ، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له من حسن الثواب فيما يصنع بها ، وقال له : لو دنوت من باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها ، ففعل . فكان ينزل من صومعته فيقعد على باب بيتها فيحدثها . فلبثا بذلك حينا ثم جاءه إبليس فقال : لو دخلت البيت معها تحدثها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك . فلم يزل به حتى دخل البيت ، فجعل يحدثها نهاره كله ، فإذا أمسى صعد في صومعته . قال : ثم أتاه إبليس بعد ذلك ، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها . فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها ، فولدت له غلاما ، فجاءه إبليس فقال له : أرأيت إن جاء إخوة هذه الجارية وقد ولدت منك ! كيف تصنع ! لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك ! فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه ، فإنها ستكتم عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها ، ففعل . فقال له : أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها ! خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها . فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفيرة مع ابنها ، وأطبق عليها صخرة عظيمة ، وسوى عليها التراب ، وصعد في صومعته يتعبد فيها ; فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ; حتى قفل إخوتها من الغزو ، فجاءوه فسألوه عنها فنعاها لهم وترحم عليها ، وبكى لهم وقال : كانت خير أمة ، وهذا قبرها فانظروا إليه . فأتى إخوتها القبر فبكوا على قبرها وترحموا عليها ، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم . فلما جن عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم ، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر ، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم ; فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها ، وكيف أراهم موضع قبرها ; فكذبه الشيطان وقال : لم يصدقكم أمر أختكم ، إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فزعا منكم ، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله . فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله ، فإنكم ستجدونهما هنالك جميعا كما أخبرتكم . قال : وأتى الأوسط في منامه وقال له مثل ذلك . ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك . فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم . فأقبل بعضهم على بعض ، يقول كل واحد منهم : لقد رأيت عجبا ، فأخبر بعضهم بعضا بما رأى . قال أكبرهم : هذا حلم ليس بشيء ، فامضوا بنا ودعوا هذا . قال أصغرهم : لا أمضي حتى آتي ذلك المكان فأنظر فيه . قال : فانطلقوا جميعا حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم ، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم ، فوجدوا
[ ص: 38 ] أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم ، فسألوا العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما . فاستعدوا عليه ملكهم ، فأنزل من صومعته فقدموه ليصلب ، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له : قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحت ابنها ، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلصتك مما أنت فيه . قال : فكفر العابد بالله ; فلما كفر خلى عنه الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه . قال : ففيه نزلت هذه الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين إلى قوله جزاء الظالمين . قال ابن عباس : فضرب الله هذا مثلا للمنافقين من
اليهود . وذلك أن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام أن يجلي
بني النضير من
المدينة ، فدس إليهم المنافقون ألا تخرجوا من دياركم ، فإن قاتلوكم كنا معكم ، وإن أخرجوكم كنا معكم ، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون ، وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من
برصيصا العابد . فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقية والكتمان . وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح ، حتى كان أمر
جريج الراهب ، وبرأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس . وقيل : المعنى مثل المنافقين في غدرهم
لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار
قريش :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=48لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم وقال
مجاهد المراد بالإنسان هاهنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم . ومعنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16إذ قال للإنسان اكفر أي أغواه حتى قال : إني كافر .
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16إني أخاف الله رب العالمين وليس قول الشيطان حقيقة ، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان ، فهو تأكيد لقوله تعالى : إني بريء منك وفتح الياء من " إني "
نافع وابن كثير وأبو عمرو . وأسكن الباقون .
فكان عاقبتهما أي عاقبة الشيطان وذلك الإنسان
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=17أنهما في النار خالدين فيها نصب على الحال . والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان . ومن جعلها في الجنس فالمعنى : وكان عاقبة الفريقين أو الصنفين . ونصب عاقبتهما على أنه خبر كان . والاسم أنهما في النار ، وقرأ
الحسن " فكان عاقبتهما " بالرفع على الضد من ذلك . وقرأ
الأعمش " خالدان فيها " بالرفع وذلك خلاف المرسوم . ورفعه على أنه خبر " أن " والظرف ملغى .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ هَذَا ضَرْبُ مَثَلٍ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ فِي تَخَاذُلِهِمْ وَعَدَمِ الْوَفَاءِ فِي نُصْرَتِهِمْ . وَحُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ ، وَلَمْ يَقُلْ : وَكَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْعَطْفِ كَثِيرٌ كَمَا تَقُولُ : أَنْتَ عَاقِلٌ أَنْتَ كَرِيمٌ أَنْتَ عَالِمٌ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=865108أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي قَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ اكْفُرْ ، رَاهِبٌ تُرِكَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ أَصَابَهَا لَمَمٌ لِيَدْعُوَ لَهَا ، فَزَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ ، ثُمَّ قَتَلَهَا خَوْفًا أَنْ يَفْتَضِحَ ، فَدَلَّ الشَّيْطَانُ قَوْمَهَا عَلَى مَوْضِعِهَا ، فَجَاءُوا فَاسْتَنْزَلُوا الرَّاهِبَ لِيَقْتُلُوهُ ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فَوَعَدَهُ أَنَّهُ إِنْ سَجَدَ لَهُ أَنْجَاهُ مِنْهُمْ ، فَسَجَدَ لَهُ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ فَأَسْلَمَهُ . ذَكَرَهُ
الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ nindex.php?page=showalam&ids=16604وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16666عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ
عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَكَرَ خَبَرَهُ مُطَوَّلًا
ابْنُ عَبَّاسٍ nindex.php?page=showalam&ids=17285وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ . وَلَفْظُهُمَا مُخْتَلِفٌ . قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ : كَانَ رَاهِبٌ فِي الْفَتْرَةِ يُقَالُ لَهُ :
بِرْصِيصَا ; قَدْ تَعَبَّدَ فِي صَوْمَعَتِهِ سَبْعِينَ سَنَةً ، لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِيهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ ، حَتَّى أَعْيَا إِبْلِيسَ ، فَجَمَعَ إِبْلِيسُ مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ فَقَالَ : أَلَا أَجِدُ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفِينِي أَمْرَ
بِرْصِيصَا ؟ فَقَالَ الْأَبْيَضُ ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَهُوَ الَّذِي قَصَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ
جِبْرِيلَ لِيُوَسْوِسَ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْوَحْيِ ، فَجَاءَ
جِبْرِيلُ فَدَخَلَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ دَفَعَهُ بِيَدِهِ حَتَّى وَقَعَ بِأَقْصَى
الْهِنْدِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=20ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ فَقَالَ : أَنَا
[ ص: 35 ] أَكْفِيكَهُ ; فَانْطَلَقَ فَتَزَيَّا بِزِيِّ الرُّهْبَانِ ، وَحَلَقَ وَسَطَ رَأْسِهِ حَتَّى أَتَى صَوْمَعَةَ
بِرْصِيصَا فَنَادَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ; وَكَانَ لَا يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا ، وَلَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ; وَكَانَ يُوَاصِلُ الْعَشَرَةَ الْأَيَّامِ وَالْعِشْرِينَ وَالْأَكْثَرَ ; فَلَمَّا رَأَى الْأَبْيَضُ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُ أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي أَصْلِ صَوْمَعَتِهِ ; فَلَمَّا انْفَتَلَ
بِرْصِيصَا مِنْ صَلَاتِهِ ، رَأَى الْأَبْيَضَ قَائِمًا يُصَلِّي فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ مِنْ هَيْئَةِ الرُّهْبَانِ ; فَنَدِمَ حِينَ لَمْ يُجِبْهُ ، فَقَالَ : مَا حَاجَتُكَ ؟ فَقَالَ : أَنْ أَكُونَ مَعَكَ ، فَأَتَأَدَّبَ بِأَدَبِكَ ، وَأَقْتَبِسَ مِنْ عَمَلِكَ ، وَنَجْتَمِعَ عَلَى الْعِبَادَةِ ; فَقَالَ : إِنِّي فِي شُغْلٍ عَنْكَ ; ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ ; وَأَقْبَلَ الْأَبْيَضُ أَيْضًا عَلَى الصَّلَاةِ ; فَلَمَّا رَأَى
بِرْصِيصَا شِدَّةَ اجْتِهَادِهِ وَعِبَادَتِهِ قَالَ لَهُ : مَا حَاجَتُكَ ؟ فَقَالَ : أَنْ تَأْذَنَ لِي فَأَرْتَفِعَ إِلَيْكَ . فَأَذِنَ لَهُ فَأَقَامَ الْأَبْيَضُ مَعَهُ حَوْلًا لَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَوْمًا وَاحِدًا ، وَلَا يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَرُبَّمَا مَدَّ إِلَى الثَّمَانِينَ ; فَلَمَّا رَأَى
بِرْصِيصَا اجْتِهَادَهُ تَقَاصَرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ . ثُمَّ قَالَ الْأَبْيَضُ : عِنْدِي دَعَوَاتٌ يَشْفِي اللَّهُ بِهَا السَّقِيمَ وَالْمُبْتَلَى وَالْمَجْنُونَ ; فَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا . ثُمَّ جَاءَ إِلَى إِبْلِيسَ فَقَالَ : قَدْ وَاللَّهِ أَهْلَكْتُ الرَّجُلَ . ثُمَّ تَعَرَّضَ لِرَجُلٍ فَخَنَقَهُ ، ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِهِ - وَقَدْ تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ - : إِنَّ بِصَاحِبِكُمْ جُنُونًا أَفَأَطِبُّهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . فَقَالَ : لَا أَقْوَى عَلَى جِنِّيَّتِهِ ، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى
بِرْصِيصَا ، فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ; فَجَاءُوهُ فَدَعَا بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ ، فَذَهَبَ عَنْهُ الشَّيْطَانُ . ثُمَّ جَعَلَ الْأَبْيَضَ يَفْعَلُ بِالنَّاسِ ذَلِكَ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى
بِرْصِيصَا فَيُعَافُونَ . فَانْطَلَقَ إِلَى جَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ ، وَكَانَ أَبُوهُمْ مَلِكًا فَمَاتَ وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ ، وَكَانَ عَمُّهَا مَلِكًا فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ فَعَذَّبَهَا وَخَنَقَهَا . ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِمْ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مُتَطَبِّبٍ لِيُعَالِجَهَا فَقَالَ : إِنَّ شَيْطَانَهَا مَارِدٌ لَا يُطَاقُ ، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِهَا إِلَى
بِرْصِيصَا فَدَعُوهَا عِنْدَهُ ، فَإِذَا جَاءَ شَيْطَانُهَا دَعَا لَهَا فَبَرِئَتْ ; فَقَالُوا : لَا يُجِيبُنَا إِلَى هَذَا ; قَالَ : فَابْنُوا صَوْمَعَةً فِي جَانِبِ صَوْمَعَتِهِ ثُمَّ ضَعُوهَا فِيهَا ، وَقُولُوا : هِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَكَ فَاحْتَسِبْ فِيهَا . فَسَأَلُوهُ ذَلِكَ فَأَبَى ، فَبَنَوْا صَوْمَعَةً وَوَضَعُوا فِيهَا الْجَارِيَةَ ; فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ عَايَنَ الْجَارِيَةَ وَمَا بِهَا مِنَ الْجَمَالِ فَأُسْقِطَ فِي يَدِهِ ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَخَنَقَهَا فَانْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ وَدَعَا لَهَا فَذَهَبَ عَنْهَا الشَّيْطَانُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَخَنَقَهَا . وَكَانَ يَكْشِفُ عَنْهَا وَيَتَعَرَّضُ بِهَا
لِبِرْصِيصَا ، ثُمَّ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ : وَيْحَكَ ! وَاقِعْهَا ، فَمَا تَجِدُ مِثْلَهَا ثُمَّ تَتُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى وَاقَعَهَا فَحَمَلَتْ وَظَهَرَ حَمْلُهَا . فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ : وَيْحَكَ ! قَدِ افْتَضَحْتَ . فَهَلْ لَكَ أَنْ تَقْتُلَهَا ثُمَّ تَتُوبَ فَلَا تَفْتَضِحَ ، فَإِنْ جَاءُوكَ وَسَأَلُوكَ فَقُلْ جَاءَهَا شَيْطَانُهَا فَذَهَبَ بِهَا . فَقَتَلَهَا
بِرْصِيصَا وَدَفَنَهَا لَيْلًا ; فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ طَرَفَ ثَوْبِهَا حَتَّى بَقِيَ خَارِجًا مِنَ التُّرَابِ ; وَرَجَعَ
بِرْصِيصَا إِلَى صَلَاتِهِ . ثُمَّ جَاءَ الشَّيْطَانُ إِلَى إِخْوَتِهَا فِي الْمَنَامِ فَقَالَ : إِنَّ
بِرْصِيصَا فَعَلَ بِأُخْتِكُمْ كَذَا وَكَذَا ، وَقَتَلَهَا وَدَفَنَهَا فِي جَبَلِ كَذَا وَكَذَا ; فَاسْتَعْظَمُوا
[ ص: 36 ] ذَلِكَ وَقَالُوا
لِبِرْصِيصَا : مَا فَعَلَتْ أُخْتُنَا ؟ فَقَالَ : ذَهَبَ بِهَا شَيْطَانُهَا ; فَصَدَّقُوهُ وَانْصَرَفُوا . ثُمَّ جَاءَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي الْمَنَامِ وَقَالَ : إِنَّهَا مَدْفُونَةٌ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا ، وَإِنَّ طَرَفَ رِدَائِهَا خَارِجٌ مِنَ التُّرَابِ ; فَانْطَلَقُوا فَوَجَدُوهَا ، فَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَخَنَقُوهُ ، وَحَمَلُوهُ إِلَى الْمَلِكِ فَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ . فَلَمَّا صُلِبَ قَالَ الشَّيْطَانُ : أَتَعْرِفُنِي ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، قَالَ : أَنَا صَاحِبُكَ الَّذِي عَلَّمْتُكَ الدَّعَوَاتِ ، أَمَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ أَمَا اسْتَحَيْتَ وَأَنْتَ أَعْبَدُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ لَمْ يَكْفِكَ صَنِيعُكَ حَتَّى فَضَحْتَ نَفْسَكَ ، وَأَقْرَرْتَ عَلَيْهَا وَفَضَحْتَ أَشْبَاهَكَ مِنَ النَّاسِ ، فَإِنْ مِتَّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يُفْلِحْ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِكَ بَعْدَكَ . فَقَالَ : كَيْفَ أَصْنَعُ ؟ قَالَ : تُطِيعُنِي فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَأُنْجِيكَ مِنْهُمْ وَآخُذُ بِأَعْيُنِهِمْ . قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : تَسْجُدُ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً ; فَقَالَ : أَنَا أَفْعَلُ ; فَسَجَدَ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ . فَقَالَ : يَا
بِرْصِيصَا ، هَذَا أَرَدْتُ مِنْكَ ; كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِكَ أَنْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ ، إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17285وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : إِنَّ عَابِدًا كَانَ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَكَانَ مِنْ أَعْبَدِ أَهْلِ زَمَانِهِ ، وَكَانَ فِي زَمَانِهِ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ لَهُمْ أُخْتٌ ، وَكَانَتْ بِكْرًا ، لَيْسَتْ لَهُمْ أُخْتٌ غَيْرُهَا ، فَخَرَجَ الْبَعْثُ عَلَى ثَلَاثَتِهِمْ ، فَلَمْ يَدْرُوا عِنْدَ مَنْ يَخْلُفُونَ أُخْتَهُمْ ، وَلَا عِنْدَ مَنْ يَأْمَنُونَ عَلَيْهَا ، وَلَا عِنْدَ مَنْ يَضَعُونَهَا . قَالَ : فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَخْلُفُوهَا عِنْدَ عَابِدِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَكَانَ ثِقَةً فِي أَنْفُسِهِمْ ، فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَخْلُفُوهَا عِنْدَهُ ، فَتَكُونَ فِي كَنَفِهِ وَجِوَارِهِ إِلَى أَنْ يَقْفِلُوا مِنْ غُزَاتِهِمْ ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْهُمْ وَمِنْ أُخْتِهِمْ . قَالَ : فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَطْاعَهُمْ ، فَقَالَ : أَنْزِلُوهَا فِي بَيْتٍ حِذَاءَ صَوْمَعَتِي ، فَأَنْزَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ ثُمَّ انْطَلَقُوا وَتَرَكُوهَا ، فَمَكَثَتْ فِي جِوَارِ ذَلِكَ الْعَابِدِ زَمَانًا ، يُنْزِلُ إِلَيْهَا الطَّعَامَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ ، فَيَضَعُهُ عِنْدَ بَابِ الصَّوْمَعَةِ ، ثُمَّ يُغْلِقُ بَابَهُ وَيَصْعَدُ فِي صَوْمَعَتِهِ ، ثُمَّ يَأْمُرُهَا فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فَتَأْخُذُ مَا وُضِعَ لَهَا مِنَ الطَّعَامِ . قَالَ : فَتَلَطَّفَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَغِّبُهُ فِي الْخَيْرِ ، وَيُعَظِّمُ عَلَيْهِ خُرُوجَ الْجَارِيَةِ مِنْ بَيْتِهَا نَهَارًا ، وَيُخَوِّفُهُ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ فَيَعْلَقَهَا . قَالَ : فَلَبِثَ بِذَلِكَ زَمَانًا ، ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَالْأَجْرِ ، وَقَالَ لَهُ : لَوْ كُنْتَ تَمْشِي إِلَيْهَا بِطَعَامِهَا حَتَّى تَضَعَهُ فِي بَيْتِهَا كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكَ ; قَالَ : فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَشَى إِلَيْهَا بِطَعَامِهَا فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهَا ، قَالَ : فَلَبِثَ بِذَلِكَ زَمَانًا ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَحَضَّهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : لَوْ كُنْتَ تُكَلِّمُهَا وَتُحَدِّثُهَا فَتَأْنَسُ بِحَدِيثِكَ ، فَإِنَّهَا قَدِ اسْتَوْحَشَتْ وَحْشَةً شَدِيدَةً . قَالَ : فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى حَدَّثَهَا زَمَانًا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا مِنْ فَوْقِ صَوْمَعَتِهِ . قَالَ : ثُمَّ أَتَاهُ إِبْلِيسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ : لَوْ كُنْتَ تَنْزِلُ إِلَيْهَا فَتَقْعُدَ عَلَى بَابِ صَوْمَعَتِكَ وَتُحَدِّثَهَا
[ ص: 37 ] وَتَقْعُدَ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا فَتُحَدِّثَكَ كَانَ آنَسَ لَهَا . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَنْزَلَهُ وَأَجْلَسَهُ عَلَى بَابِ صَوْمَعَتِهِ يُحَدِّثَهَا ، وَتَخْرُجُ الْجَارِيَةُ مِنْ بَيْتِهَا ، فَلَبِثَا زَمَانًا يَتَحَدَّثَانِ ، ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا ، وَقَالَ : لَوْ خَرَجْتَ مِنْ بَابِ صَوْمَعَتِكَ فَجَلَسْتَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ بَيْتِهَا كَانَ آنَسَ لَهَا . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى فَعَلَ . قَالَ : فَلَبِثَا زَمَانًا ، ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَفِيمَا لَهُ مِنْ حُسْنِ الثَّوَابِ فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا ، وَقَالَ لَهُ : لَوْ دَنَوْتَ مِنْ بَابِ بَيْتِهَا فَحَدَّثْتَهَا وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهَا ، فَفَعَلَ . فَكَانَ يَنْزِلُ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَيَقْعُدُ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا فَيُحَدِّثُهَا . فَلَبِثَا بِذَلِكَ حِينًا ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ : لَوْ دَخَلْتَ الْبَيْتَ مَعَهَا تُحَدِّثَهَا وَلَمْ تَتْرُكْهَا تُبْرِزْ وَجْهَهَا لِأَحَدٍ كَانَ أَحْسَنَ بِكَ . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُهَا نَهَارَهُ كُلَّهُ ، فَإِذَا أَمْسَى صَعِدَ فِي صَوْمَعَتِهِ . قَالَ : ثُمَّ أَتَاهُ إِبْلِيسُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَزَلْ يُزَيِّنُهَا لَهُ حَتَّى ضَرَبَ الْعَابِدَ عَلَى فَخِذِهَا وَقَبَّلَهَا . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ إِبْلِيسُ يُحَسِّنُهَا فِي عَيْنِهِ وَيُسَوِّلُ لَهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا فَأَحْبَلَهَا ، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا ، فَجَاءَهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ : أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ إِخْوَةُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْكَ ! كَيْفَ تَصْنَعُ ! لَا آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ تَفْتَضِحَ أَوْ يَفْضَحُوكَ ! فَاعْمِدْ إِلَى ابْنِهَا فَاذْبَحْهُ وَادْفِنْهُ ، فَإِنَّهَا سَتَكْتُمُ عَلَيْكَ مَخَافَةَ إِخْوَتِهَا أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا صَنَعْتَ بِهَا ، فَفَعَلَ . فَقَالَ لَهُ : أَتَرَاهَا تَكْتُمُ إِخْوَتَهَا مَا صَنَعْتَ بِهَا وَقَتَلْتَ ابْنَهَا ! خُذْهَا فَاذْبَحْهَا وَادْفِنْهَا مَعَ ابْنِهَا . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى ذَبَحَهَا وَأَلْقَاهَا فِي الْحَفِيرَةِ مَعَ ابْنِهَا ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهَا صَخْرَةً عَظِيمَةً ، وَسَوَّى عَلَيْهَا التُّرَابَ ، وَصَعِدَ فِي صَوْمَعَتِهِ يَتَعَبَّدُ فِيهَا ; فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ; حَتَّى قَفَلَ إِخْوَتُهَا مِنَ الْغَزْوِ ، فَجَاءُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَنَعَاهَا لَهُمْ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهَا ، وَبَكَى لَهُمْ وَقَالَ : كَانَتْ خَيْرَ أَمَةٍ ، وَهَذَا قَبْرُهَا فَانْظُرُوا إِلَيْهِ . فَأَتَى إِخْوَتُهَا الْقَبْرَ فَبَكَوْا عَلَى قَبْرِهَا وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهَا ، وَأَقَامُوا عَلَى قَبْرِهَا أَيَّامًا ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى أَهَالِيهِمْ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ ، أَتَاهُمُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مُسَافِرٍ ، فَبَدَأَ بِأَكْبَرِهِمْ فَسَأَلَهُ عَنْ أُخْتِهِمْ ; فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الْعَابِدِ وَمَوْتِهَا وَتَرَحُّمِهِ عَلَيْهَا ، وَكَيْفَ أَرَاهُمْ مَوْضِعَ قَبْرِهَا ; فَكَذَّبَهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ : لَمْ يَصْدُقْكُمْ أَمْرَ أُخْتِكُمْ ، إِنَّهُ قَدْ أَحْبَلَ أُخْتَكُمْ وَوَلَدَتْ مِنْهُ غُلَامًا فَذَبَحَهُ وَذَبَحَهَا مَعَهُ فَزَعًا مِنْكُمْ ، وَأَلْقَاهَا فِي حَفِيرَةٍ احْتَفَرَهَا خَلْفَ الْبَابِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَنْ يَمِينِ مَنْ دَخَلَهُ . فَانْطَلِقُوا فَادْخُلُوا الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَنْ يَمِينِ مَنْ دَخَلَهُ ، فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَهُمَا هُنَالِكَ جَمِيعًا كَمَا أَخْبَرْتُكُمْ . قَالَ : وَأَتَى الْأَوْسَطَ فِي مَنَامِهِ وَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ . ثُمَّ أَتَى أَصْغَرَهُمْ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ . فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ الْقَوْمُ اسْتَيْقَظُوا مُتَعَجِّبِينَ لِمَا رَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا ، فَأَخْبَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا رَأَى . قَالَ أَكْبَرُهُمْ : هَذَا حُلْمٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، فَامْضُوا بِنَا وَدَعُوا هَذَا . قَالَ أَصْغَرُهُمْ : لَا أَمْضِي حَتَّى آتِيَ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَأَنْظُرَ فِيهِ . قَالَ : فَانْطَلَقُوا جَمِيعًا حَتَّى دَخَلُوا الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ أُخْتُهُمْ ، فَفَتَحُوا الْبَابَ وَبَحَثُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي وَصَفَ لَهُمْ فِي مَنَامِهِمْ ، فَوَجَدُوا
[ ص: 38 ] أُخْتَهُمْ وَابْنَهَا مَذْبُوحَيْنِ فِي الْحَفِيرَةِ كَمَا قِيلَ لَهُمْ ، فَسَأَلُوا الْعَابِدَ فَصَدَّقَ قَوْلَ إِبْلِيسَ فِيمَا صَنَعَ بِهِمَا . فَاسْتَعْدَوْا عَلَيْهِ مَلِكَهُمْ ، فَأُنْزِلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَقَدَّمُوهُ لِيُصْلَبَ ، فَلَمَّا أَوْقَفُوهُ عَلَى الْخَشَبَةِ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ : قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي صَاحِبُكَ الَّذِي فَتَنْتُكَ فِي الْمَرْأَةِ حَتَّى أَحَبَلْتَهَا وَذَبَحْتَهَا وَذَبَحْتَ ابْنَهَا ، فَإِنْ أَنْتَ أَطَعْتِنِي الْيَوْمَ وَكَفَرْتَ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ خَلَّصْتُكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ . قَالَ : فَكَفَرَ الْعَابِدُ بِاللَّهِ ; فَلَمَّا كَفَرَ خَلَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ فَصَلَبُوهُ . قَالَ : فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِلَى قَوْلِهِ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَضَرَبَ اللَّهُ هَذَا مَثَلًا لِلْمُنَافِقِينَ مِنَ
الْيَهُودِ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُجْلِيَ
بَنِي النَّضِيرِ مِنَ
الْمَدِينَةِ ، فَدَسَّ إِلَيْهِمُ الْمُنَافِقُونَ أَلَّا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ كُنَّا مَعَكُمْ ، وَإِنْ أَخْرَجُوكُمْ كُنَّا مَعَكُمْ ، فَحَارَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَذَلَهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْ
بِرْصِيصَا الْعَابِدِ . فَكَانَ الرُّهْبَانُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْشُونَ إِلَّا بِالتَّقِيَّةِ وَالْكِتْمَانِ . وَطَمِعَ أَهْلُ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ فِي الْأَحْبَارِ فَرَمَوْهُمْ بِالْبُهْتَانِ وَالْقَبِيحِ ، حَتَّى كَانَ أَمْرُ
جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ ، وَبَرَّأَهُ اللَّهُ فَانْبَسَطَتْ بَعْدَهُ الرُّهْبَانُ وَظَهَرُوا لِلنَّاسِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَثَلُ الْمُنَافِقِينَ فِي غَدْرِهِمْ
لِبَنِي النَّضِيرِ كَمَثَلِ إِبْلِيسَ إِذْ قَالَ لِكُفَّارِ
قُرَيْشٍ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=48لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ، وَإِنِّي جَارٌّ لَكُمْ وَقَالَ
مُجَاهِدٌ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هَاهُنَا جَمِيعُ النَّاسِ فِي غُرُورِ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ أَيْ أَغْوَاهُ حَتَّى قَالَ : إِنِّي كَافِرٌ .
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=16إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَلَيْسَ قَوْلُ الشَّيْطَانِ حَقِيقَةً ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّؤِ مِنَ الْإِنْسَانِ ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ وَفَتَحَ الْيَاءَ مِنْ " إِنِّي "
نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو . وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ .
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَيْ عَاقِبَةُ الشَّيْطَانِ وَذَلِكَ الْإِنْسَانِ
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=17أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ . وَالتَّثْنِيَةُ ظَاهِرَةٌ فِيمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ مَخْصُوصَةً فِي الرَّاهِبِ وَالشَّيْطَانِ . وَمَنْ جَعَلَهَا فِي الْجِنْسِ فَالْمَعْنَى : وَكَانَ عَاقِبَةُ الْفَرِيقَيْنِ أَوِ الصِّنْفَيْنِ . وَنَصَبَ عَاقِبَتَهُمَا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ . وَالِاسْمُ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ ، وَقَرَأَ
الْحَسَنُ " فَكَانَ عَاقِبَتُهُمَا " بِالرَّفْعِ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ . وَقَرَأَ
الْأَعْمَشُ " خَالِدَانِ فِيهَا " بِالرَّفْعِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَرْسُومِ . وَرَفَعَهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ " أَنَّ " وَالظَّرْفُ مُلْغًى .