قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=9يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [ ص: 127 ] فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=9يوم يجمعكم ليوم الجمع العامل في " يوم " لتنبؤن ، أو " خبير " لما فيه من معنى الوعيد ; كأن قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم . أو بإضمار اذكر . والغبن : النقص . يقال : غبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته . وقراءة العامة يجمعكم بالياء ; لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=8والله بما تعملون خبير فأخبر . ولذكر اسم الله أولا . وقرأ
نصر وابن أبي إسحاق والجحدري ويعقوب وسلام " نجمعكم " بالنون ; اعتبارا بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=8والنور الذي أنزلنا . ويوم الجمع يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض . وقيل : هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله . وقيل : لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم . وقيل : لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته . وقيل : لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي .
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=9ذلك يوم التغابن أي يوم القيامة . قال :
وما أرتجي بالعيش في دار فرقة ألا إنما الراحات يوم التغابن
وسمى يوم القيامة
nindex.php?page=treesubj&link=30291يوم التغابن ; لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار . أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة ، وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة ; فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر ، والجيد بالرديء ، والنعيم بالعذاب . يقال : غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك . وكذا أهل الجنة وأهل النار ; على ما يأتي بيانه . ويقال : غبنت الثوب وخبنته إذا طال عن مقدارك فخطت منه شيئا ; فهو نقصان أيضا . والمغابن : ما انثنى من الخلق نحو الإبطين والفخذين . قال المفسرون : فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة . ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام . قال
الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته .
الثانية : فإن قيل : فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها . قيل له : هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع ; كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى . ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا ، ذكر أيضا أنهم غبنوا ; وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا ، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة . وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا . وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين : فريقا للجنة وفريقا للنار . ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار . فقد يسبق الخذلان على العبد - كما بيناه في هذه السورة وغيرها - فيكون من أهل النار ، فيحصل الموفق على منزل المخذول ، ومنزل
[ ص: 128 ] الموفق في النار للمخذول ; فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن . والأمثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن . وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت مفرقة في هذا الكتاب . وقد يخبر عن هذا التبادل بالوراثة كما بيناه في
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=1قد أفلح المؤمنون والله أعلم .
وقد يقع التغابن في غير ذلك اليوم على ما يأتي بيانه بعد ; ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته . وقال
الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف : رجل علم علما فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به ، وعمل به من تعلمه منه فنجا به . ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه ، وفرط في طاعة ربه بسببه ، ولم يعمل فيه خيرا ، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه ; فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه . ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد ، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا فما أنتما بقائلين ، فيقول الرجل : يا رب أوجبت نفقتها علي فتعسفتها من حلال وحرام ، وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك ، ولم يبق لي ما أوفي به . فتقول المرأة : يا رب وما عسى أن أقول : اكتسبه حراما وأكلته حلالا ، وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك ، فبعدا له وسحقا ، فيقول الله تعالى : قد صدقت . فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة ، فتطلع عليه من طبقات الجنة وتقول له : غبناك غبناك ، سعدنا بما شقيت أنت به " فذلك يوم التغابن .
الثالثة : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي : استدل علماؤنا بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=9ذلك يوم التغابن على أنه لا يجوز
nindex.php?page=treesubj&link=15884الغبن في المعاملة الدنيوية ; لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة فقال : ذلك يوم التغابن وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا ; فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث . واختاره البغداديون واحتجوا عليه بوجوه : منها
nindex.php?page=hadith&LINKID=865224قوله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ : " إذا بايعت فقل لا خلابة ، ولك الخيار ثلاثا " . وهذا فيه نظر طويل بيناه في مسائل الخلاف . نكتته أن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين ; إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة ، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه لأحد ، فمضى في البيوع ; إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا ; لأنه لا يخلو منه ، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به . والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم ، فقدر علماؤنا الثلث لهذا الحد ; إذ رأوه في الوصية وغيرها . ويكون معنى الآية على هذا : ذلك يوم التغابن الجائز
[ ص: 129 ] مطلقا من غير تفصيل . أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا ; لأن تغابن الدنيا يستدرك بوجهين : إما برد في بعض الأحوال ، وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى . فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا . وقد قال بعض علماء الصوفية : إن الله كتب الغبن على الخلق أجمعين ، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا ، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب . وفي الأثر قال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=865225لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن ، وإن كان محسنا إن لم يزدد .
قوله تعالى : " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا نكفر عنه سيئاته وندخله جنات " قرأ
نافع وابن عامر بالنون فيهما ، والباقون بالياء .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=9يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ ص: 127 ] فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْأُولَى : قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=9يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ الْعَامِلُ فِي " يَوْمَ " لَتُنَبَّؤُنَّ ، أَوْ " خَبِيرٌ " لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْوَعِيدِ ; كَأَنْ قَالَ : وَاللَّهُ يُعَاقِبُكُمْ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ . أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ . وَالْغَبْنُ : النَّقْصُ . يُقَالُ : غَبَنَهُ غَبْنًا إِذَا أَخَذَ الشَّيْءَ مِنْهُ بِدُونِ قِيمَتِهِ . وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ يَجْمَعُكُمْ بِالْيَاءِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=8وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَأَخْبَرَ . وَلِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ أَوَّلًا . وَقَرَأَ
نَصْرٌ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ وَسَلَامٌ " نَجْمَعُكُمْ " بِالنُّونِ ; اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=8وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا . وَيَوْمَ الْجَمْعِ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَأَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ . وَقِيلَ : هُوَ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَ كُلِّ عَبْدٍ وَعَمَلِهِ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ كُلِّ نَبِيِّ وَأُمَّتِهِ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ ثَوَابِ أَهْلِ الطَّاعَاتِ وَعِقَابِ أَهْلِ الْمَعَاصِي .
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=9ذَلِكَ يَوْمَ التَّغَابُنِ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . قَالَ :
وَمَا أَرْتَجِي بِالْعَيْشِ فِي دَارِ فُرْقَةٍ أَلَا إِنَّمَا الرَّاحَاتُ يَوْمَ التَّغَابُنِ
وَسَمَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=30291يَوْمَ التَّغَابُنِ ; لِأَنَّهُ غَبَنَ فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ . أَيْ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَخَذُوا الْجَنَّةَ ، وَأَخَذَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ ; فَوَقَعَ الْغَبْنُ لِأَجْلِ مُبَادَلَتِهِمُ الْخَيْرَ بِالشَّرِّ ، وَالْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ ، وَالنَّعِيمَ بِالْعَذَابِ . يُقَالُ : غَبَنْتُ فُلَانًا إِذَا بَايَعْتُهُ أَوْ شَارَيْتُهُ فَكَانَ النَّقْصُ عَلَيْهِ وَالْغَلَبَةُ لَكَ . وَكَذَا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ . وَيُقَالُ : غَبَنْتُ الثَّوْبَ وَخَبَنْتُهُ إِذَا طَالَ عَنْ مِقْدَارِكَ فَخِطْتَ مِنْهُ شَيْئًا ; فَهُوَ نُقْصَانٌ أَيْضًا . وَالْمَغَابِنُ : مَا انْثَنَى مِنَ الْخِلَقِ نَحْوَ الْإِبْطَيْنِ وَالْفَخِذَيْنِ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : فَالْمَغْبُونُ مَنْ غُبِنَ أَهْلُهُ وَمَنَازِلُهُ فِي الْجَنَّةِ . وَيَظْهَرُ يَوْمَئِذٍ غَبْنُ كُلِّ كَافِرٍ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ ، وَغَبْنُ كُلِّ مُؤْمِنٍ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْإِحْسَانِ وَتَضْيِيعِهِ الْأَيَّامَ . قَالَ
الزَّجَّاجُ : وَيَغْبِنُ مَنِ ارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي الْجَنَّةِ مَنْ كَانَ دُونَ مَنْزِلَتِهِ .
الثَّانِيَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَأَيُّ مُعَامَلَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَقَعَ الْغَبْنُ فِيهَا . قِيلَ لَهُ : هُوَ تَمْثِيلُ الْغَبْنِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى . وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْكُفَّارَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ بَلْ خَسِرُوا ، ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُمْ غُبِنُوا ; وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ اشْتَرَوُا الْآخِرَةَ بِتَرْكِ الدُّنْيَا ، وَاشْتَرَى أَهْلُ النَّارِ الدُّنْيَا بِتَرْكِ الْآخِرَةِ . وَهَذَا نَوْعُ مُبَادَلَةٍ اتِّسَاعًا وَمَجَازًا . وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَلْقَ فَرِيقَيْنِ : فَرِيقًا لِلْجَنَّةِ وَفَرِيقًا لِلنَّارِ . وَمَنَازِلُ الْكُلِّ مَوْضُوعَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ . فَقَدْ يَسْبِقُ الْخِذْلَانُ عَلَى الْعَبْدِ - كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا - فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَيَحْصُلُ الْمُوَفَّقُ عَلَى مَنْزِلِ الْمَخْذُولِ ، وَمَنْزِلُ
[ ص: 128 ] الْمُوَفَّقِ فِي النَّارِ لِلْمَخْذُولِ ; فَكَأَنَّهُ وَقَعَ التَّبَادُلُ فَحَصَلَ التَّغَابُنُ . وَالْأَمْثَالُ مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ فِي حِكَمِ اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ . وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ مِنْ نَشْرِ الْآثَارِ وَقَدْ جَاءَتْ مُفَرَّقَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ . وَقَدْ يُخْبِرُ عَنْ هَذَا التَّبَادُلِ بِالْوِرَاثَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=1قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ يَقَعُ التَّغَابُنُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدُ ; وَلَكِنَّهُ أَرَادَ التَّغَابُنَ الَّذِي لَا جُبْرَانَ لِنِهَايَتِهِ . وَقَالَ
الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ : بَلَغَنَا أَنَّ التَّغَابُنَ فِي ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ : رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَعَلَّمَهُ وَضَيَّعَهُ هُوَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَشَقِيَ بِهِ ، وَعَمِلَ بِهِ مَنْ تَعَلَّمَهُ مِنْهُ فَنَجَا بِهِ . وَرَجُلٌ اكْتَسَبَ مَالًا مِنْ وُجُوهٍ يُسْأَلُ عَنْهَا وَشَحَّ عَلَيْهِ ، وَفَرَّطَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ بِسَبَبِهِ ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ خَيْرًا ، وَتَرَكَهُ لِوَارِثٍ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ فِيهِ ; فَعَمِلَ ذَلِكَ الْوَارِثُ فِيهِ بِطَاعَةِ رَبِّهِ . وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ عَبْدٌ فَعَمِلَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ رَبِّهِ فَسَعِدَ ، وَعَمِلَ السَّيِّدُ بِمَعْصِيَةِ رَبِّهِ فَشَقِيَ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقِيمُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا قَوْلًا فَمَا أَنْتُمَا بِقَائِلِينَ ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ : يَا رَبِّ أَوْجَبْتَ نَفَقَتَهَا عَلَيَّ فَتَعَسَّفْتُهَا مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ ، وَهَؤُلَاءِ الْخُصُومُ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَبْقَ لِي مَا أُوفِي بِهِ . فَتَقُولُ الْمَرْأَةُ : يَا رَبِّ وَمَا عَسَى أَنْ أَقُولَ : اكْتَسَبَهُ حَرَامًا وَأَكَلْتُهُ حَلَالًا ، وَعَصَاكَ فِي مَرْضَاتِي وَلَمْ أَرْضَ لَهُ بِذَلِكَ ، فَبُعْدًا لَهُ وَسُحْقًا ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ صَدَقْتِ . فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ وَيُؤْمَرُ بِهَا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ طَبَقَاتِ الْجَنَّةِ وَتَقُولُ لَهُ : غَبَنَّاكَ غَبَنَّاكَ ، سَعِدْنَا بِمَا شَقِيتَ أَنْتَ بِهِ " فَذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ .
الثَّالِثَةُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابْنُ الْعَرَبِيِّ : اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=9ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=15884الْغَبْنُ فِي الْمُعَامَلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَ التَّغَابُنَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ : ذَلِكَ يَوْمَ التَّغَابُنِ وَهَذَا الِاخْتِصَاصُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا غَبْنَ فِي الدُّنْيَا ; فَكُلُّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى غَبْنٍ فِي مَبِيعٍ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ إِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ . وَاخْتَارَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ : مِنْهَا
nindex.php?page=hadith&LINKID=865224قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ : " إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ ، وَلَكَ الْخِيَارُ ثَلَاثًا " . وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ . نُكْتَتُهُ أَنَّ الْغَبْنَ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ فِي حُكْمِ الدِّينِ ; إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا فِي كُلِّ مِلَّةٍ ، لَكِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِأَحَدٍ ، فَمَضَى فِي الْبُيُوعِ ; إِذْ لَوْ حَكَمْنَا بِرَدِّهِ مَا نَفَذَ بَيْعٌ أَبَدًا ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ كَثِيرًا أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَوَجَبَ الرَّدُّ بِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْلُومٌ ، فَقَدَّرَ عُلَمَاؤُنَا الثُّلُثَ لِهَذَا الْحَدِّ ; إِذْ رَأَوْهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا . وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا : ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ الْجَائِزِ
[ ص: 129 ] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ . أَوْ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ الَّذِي لَا يُسْتَدْرَكُ أَبَدًا ; لِأَنَّ تَغَابُنَ الدُّنْيَا يُسْتَدْرَكُ بِوَجْهَيْنِ : إِمَّا بِرَدٍّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَإِمَّا بِرِبْحٍ فِي بَيْعٍ آخَرَ وَسِلْعَةٍ أُخْرَى . فَأَمَّا مَنْ خَسِرَ الْجَنَّةَ فَلَا دَرْكَ لَهُ أَبَدًا . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الصُّوفِيَّةِ : إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْغَبْنَ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، فَلَا يَلْقَى أَحَدٌ رَبَّهُ إِلَّا مَغْبُونًا ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِيفَاءُ لِلْعَمَلِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الثَّوَابِ . وَفِي الْأَثَرِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=865225لَا يَلْقَى اللَّهَ أَحَدٌ إِلَّا نَادِمًا إِنْ كَانَ مُسِيئًا إِنْ لَمْ يُحْسِنْ ، وَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا إِنْ لَمْ يَزْدَدْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا نُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَنُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ " قَرَأَ
نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ فِيهِمَا ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ .