قوله تعالى : سلام هي حتى مطلع الفجر    [ ص: 119 ] قيل : إن تمام الكلام من كل أمر ثم قال سلام . روي ذلك عن نافع  وغيره ; أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها . حتى مطلع الفجر أي إلى طلوع الفجر . قال الضحاك    : لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة ، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل : أي هي سلام ; أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة . وكذا قال مجاهد    : هي ليلة سالمة ، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى . وروي مرفوعا . وقال الشعبي    : هو تسليم الملائكة على أهل المساجد ، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر ; يمرون على كل مؤمن ، ويقولون : السلام عليك أيها المؤمن . وقيل : يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها . 
وقال قتادة    : سلام هي    : خير هي . حتى مطلع الفجر  أي إلى مطلع الفجر   . وقرأ الكسائي  وابن محيصن    ( مطلع ) بكسر اللام ، الباقون بالفتح . والفتح والكسر : لغتان في المصدر . والفتح الأصل في فعل يفعل ; نحو المقتل والمخرج . والكسر على أنه مما شذ عن قياسه ; نحو المشرق والمغرب والمنبت والمسكن والمنسك والمحشر والمسقط والمجزر . حكي في ذلك كله الفتح والكسر ، على أن يراد به المصدر لا الاسم . 
وهنا ثلاث مسائل : 
الأولى : في تعيين ليلة القدر ;  وقد اختلف العلماء في ذلك . والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين ; لحديث زر بن حبيش  قال : قلت  لأبي بن كعب    : إن أخاك  عبد الله بن مسعود  يقول : ( من يقم الحول يصب ليلة القدر . فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن    ! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان ، وأنها ليلة سبع وعشرين ; ولكنه أراد ألا يتكل الناس ; ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين . قال قلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟  قال : بالآية التي أخبرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو بالعلامة أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها ) . 
قال الترمذي    : حديث حسن صحيح . وخرجه مسلم    . وقيل : هي في شهر رمضان دون سائر العام ; قاله  أبو هريرة  وغيره . وقيل : هي في ليالي السنة كلها . فمن علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر ،  لم يقع العتق والطلاق إلا بعد مضي سنة من يوم حلف ; لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك ، ولم يثبت اختصاصها بوقت ; فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا بمضي حول . وكذلك العتق ; وما كان مثله من يمين أو غيره . 
وقال ابن مسعود    : من يقم الحول يصبها ; فبلغ ذلك   [ ص: 120 ] ابن عمر ،  فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن    ! أما إنه علم أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان ; ولكنه أراد ألا يتكل الناس . وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة  أنها في جميع السنة . وقيل عنه : إنها رفعت - يعني ليلة القدر - وأنها إنما كانت مرة واحدة ; والصحيح أنها باقية . وروي عن ابن مسعود  أيضا : أنها إذا كانت في يوم من هذه السنة ، كانت في العام المقبل في يوم آخر . والجمهور على أنها في كل عام من رمضان . ثم قيل : إنها الليلة الأولى من الشهر ; قاله أبو رزين العقيلي    . وقال الحسن   وابن إسحاق   وعبد الله بن الزبير    : هي ليلة سبع عشرة من رمضان ، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر  كأنهم نزعوا بقوله تعالى : وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان  ، وكان ذلك ليلة سبع عشرة ، وقيل هي ليلة التاسع عشر . والصحيح المشهور : أنها في العشر الأواخر من رمضان ; وهو قول مالك   والشافعي   والأوزاعي   وأبي ثور  وأحمد    . ثم قال قوم : هي ليلة الحادي والعشرين . ومال إليه  الشافعي    - رضي الله عنه - ; لحديث الماء والطين ورواه أبو سعيد الخدري ،  خرجه مالك  وغيره . وقيل ليلة الثالث والعشرين ; لما رواه ابن عمر  أن رجلا قال : يا رسول الله إني رأيت ليلة القدر في سابعة تبقى . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين ، فمن أراد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين " . 
قال معمر    : فكان أيوب  يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيبا   . وفي صحيح مسلم  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين   " . قال عبد الله بن أنيس    : فرأيته في صبيحة ليلة ثلاث وعشرين في الماء والطين ، كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : ليلة خمس وعشرين ; لحديث  أبي سعيد الخدري    : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " التمسوها في العشر الأواخر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى   " . رواه مسلم ،  قال مالك    : يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين ، والسابعة ليلة ثلاث   [ ص: 121 ] وعشرين ، والخامسة ليلة خمس وعشرين . وقيل : ليلة سبع وعشرين . وقد مضى دليله ، وهو قول علي    - رضي الله عنه -  وعائشة  ومعاوية   وأبي بن كعب    . وروى ابن عمر  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كان متحريا ليلة القدر ، فليتحرها ليلة سبع وعشرين   " . 
وقال أبي بن كعب    : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ليلة القدر ليلة سبع وعشرين   " . وقال أبو بكر الوراق    : إن الله تعالى قسم ليالي هذا الشهر - شهر رمضان - على كلمات هذه السورة ، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال : هي . وأيضا فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات ، وهي تسعة أحرف ، فتجيء سبعا وعشرين   . وقيل : هي ليلة تسع وعشرين ; لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليلة القدر التاسعة والعشرون - أو السابعة والعشرون - وأن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى   " . وقد قيل : إنها في الأشفاع . 
قال الحسن    : ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة ، فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها . يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة . وقيل إنها مستورة في جميع السنة ، ليجتهد المرء في إحياء جميع الليالي . وقيل : أخفاها في جميع شهر رمضان ، ليجتهدوا في العمل والعبادة ليالي شهر رمضان ، طمعا في إدراكها ، كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات ، واسمه الأعظم في أسمائه الحسنى ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة وساعات الليل ، وغضبه في المعاصي ، ورضاه في الطاعات ، وقيام الساعة في الأوقات ، والعبد الصالح بين العباد ; رحمة منه وحكمة . 
الثانية : في علاماتها    : منها أن الشمس ، تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها . وقال الحسن  قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر : " إن من أماراتها : أنها ليلة سمحة بلجة ، لا حارة ولا باردة ، تطلع الشمس صبيحتها ليس لها شعاع   " . وقال  عبيد بن عمير    : كنت ليلة السابع والعشرين في البحر ، فأخذت من مائه ، فوجدته عذبا سلسا . 
الثالثة : في فضائلها . وحسبك بقوله تعالى : ليلة القدر خير من ألف شهر  وقوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها    . وفي الصحيحين : من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا   [ ص: 122 ] غفر الله له ما تقدم من ذنبه رواه  أبو هريرة    . وقال ابن عباس    : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان ليلة القدر ، تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى ، منهم جبريل ،  ومعهم ألوية ينصب منها لواء على قبري ، ولواء على بيت المقدس ،  ولواء على المسجد الحرام ،  ولواء على طور سيناء ،  ولا تدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا تسلم عليه ، إلا مدمن الخمر ، وآكل الخنزير ، والمتضمخ بالزعفران  " . 
وفي الحديث : " إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها ، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل ولا شيء من الفساد ، ولا ينفذ فيها سحر ساحر   " . 
وقال الشعبي    : وليلها كيومها ، ويومها كليلها . وقال الفراء    : لا يقدر الله في ليلة القدر إلا السعادة والنعم ، ويقدر في غيرها البلايا والنقم ; وقد تقدم عن الضحاك    . ومثله لا يقال من جهة الرأي ، فهو مرفوع . والله أعلم . وقال  سعيد بن المسيب  في الموطأ : من شهد العشاء من ليلة القدر ، فقد أخذ بحظه منها ، ومثله لا يدرك بالرأي . وقد روى عبيد الله بن عامر بن ربيعة    : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر   " ذكره الثعلبي  في تفسيره . وقالت عائشة    - رضي الله عنها - : قلت : يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول ؟ قال : ( قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني   . 
				
						
						
