فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وإذا سألك المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي ، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك ، واختلف في سبب نزولها ، فقال مقاتل : إن عمر رضي الله عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى ، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتما ، وكان ذلك قبل نزول [ ص: 287 ] الرخصة ، فنزلت هذه الآية : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ، وقيل : لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم ، فنزلت هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم ، على ما يأتي بيانه . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا ، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام ، وغلظ كل سماء مثل ذلك ؟ فنزلت هذه الآية ، وقال الحسن : سببها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فنزلت ، وقال عطاء وقتادة : لما نزلت : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم قال قوم : في أي ساعة ندعوه ؟ فنزلت .
الثانية : قوله تعالى : فإني قريب أي بالإجابة ، وقيل بالعلم ، وقيل : قريب من أوليائي بالإفضال والإنعام .
الثالثة : قوله تعالى : أجيب دعوة الداع إذا دعان أي أقبل عبادة من عبدني ، فالدعاء بمعنى العبادة ، والإجابة بمعنى القبول . دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فسمي الدعاء عبادة ، ومنه قوله تعالى : الدعاء هو العبادة وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين أي دعائي ، فأمر تعالى بالدعاء وخص عليه وسماه عبادة ، ووعد بأن يستجيب لهم . روى ليث عن عن شهر بن حوشب عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة ما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس، وكان خالد الربعي يقول : عجبت لهذه الأمة في ادعوني أستجب لكم [ ص: 288 ] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة ، وليس بينهما شرط . قال له قائل : مثل ماذا ؟ قال مثل قوله : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات فها هنا شرط ، وقوله : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق فليس فيه شرط العمل ، ومثل قوله : فادعوا الله مخلصين له الدين فها هنا شرط ، وقوله : ادعوني أستجب لكم ليس فيه شرط ، وكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك .
؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين أجيب أستجب لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل ، ولا بكل مطلوب على التفصيل ، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى : فإن قيل : فما للداعي قد يدعو فلا يجاب ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد ، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له ، وأنواع الاعتداء كثيرة ، يأتي بيانها هنا وفي [ الأعراف ] إن شاء الله تعالى ، وقال بعض العلماء : أجيب إن شئت ، كما قال : فيكشف ما تدعون إليه إن شاء فيكون هذا من باب المطلق والمقيد ، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة ، على ما يأتي بيانه في ( الأنعام ) إن شاء الله تعالى . وقيل : إنما مقصود هذا الإخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة ، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الآية . وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه رسوله ، فالإجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة ; لأن أجيب وأستجب خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا . يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة وأوحى الله تعالى إلى داود : أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم وقال قوم : إن ، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا ، وإما أن يكفر عنه ، وإما أن يدخر له في الآخرة ، لما رواه أبو سعيد الخدري قال : الله يجيب كل الدعاء . خرجه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث ؛ إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها . قالوا : إذن نكثر ؟ قال : لله أكثر أبو [ ص: 289 ] عمر بن عبد البر ، وصححه أبو محمد عبد الحق ، وهو في الموطأ منقطع السند . قال أبو عمر : وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول الله تعالى ادعوني أستجب لكم فهذا كله من الإجابة ، وقال ابن عباس : كل عبد دعا استجيب له ، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه ، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له .
قلت : وحديث وإن كان إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلك على صحة ما تقدم من اجتناب أبي سعيد الخدري حيث قال فيه : الاعتداء المانع من الإجابة وزاد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم مسلم : ما لم يستعجل . رواه عن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة ؟ قال - يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء الاستعجال ، وروى لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل - قيل : يا رسول الله ، ما البخاري ومسلم وأبو داود عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : يحتمل قوله يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة ، والإخبار عن جواز وقوعها ، فإذا كان بمعنى الإخبار عن الوجوب والوقوع فإن الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة ، فإذا قال : قد دعوت فلم يستجب لي ، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها ، وإن كان بمعنى جواز الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة ، ويمنع من ذلك قول الداعي : قد دعوت فلم يستجب لي ; لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط . يستجاب لأحدكم
[ ص: 290 ] قلت : وما كان في معناه ، قال صلى الله عليه وسلم : ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته ، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به . فمن الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب ، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه ، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام ، وألا يمل من الدعاء ، شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا الله ، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره ، كما قال : ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب ، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم ، وقال ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم : سهل بن عبد الله التستري سبعة : أولها شروط الدعاء التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم ، وقال وأكل الحلال ابن عطاء : إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا ، فإن وافق أركانه قوي ، وإن وافق أجنحته طار في السماء ، وإن وافق مواقيته فاز ، وإن وافق أسبابه أنجح . فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع ، وأجنحته الصدق ، ومواقيته الأسحار ، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : شرائطه أربع : أولها حفظ القلب عند الوحدة ، وحفظ اللسان مع الخلق ، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل ، وحفظ البطن من الحرام ، وقد قيل : إن من شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن ، كما أنشد بعضهم :
ينادي ربه باللحن ليث كذاك إذا دعاه فلا يجيب
عظة : وقيل : ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟ قال : لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه ، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به ، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها ، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه ، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا ، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس . قال لإبراهيم بن أدهم علي رضي الله عنه لنوف البكالي : يا نوف ، إن الله أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، [ ص: 291 ] وأيد نقية ، فإني لا أستجيب لأحد منهم ، ولا لأحد من خلقي له عنده مظلمة . يا نوف ، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا ، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال : إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها ، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا ، أو صاحب عرطبة ، وهي الطنبور ، أو صاحب كوبة ، وهي الطبل . قال علماؤنا : ، اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة ، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء . وأيضا فإن في قوله : إن شئت نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته ، كقول القائل : إن شئت أن تعطيني كذا فافعل ، لا يستعمل هذا إلا مع الغنى عنه ، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله . وروى الأئمة واللفظ ولا يقل الداعي : اللهم أعطني إن شئت عن للبخاري أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . وفي الموطأ : إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ؛ يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له . قال علماؤنا : قوله فليعزم المسألة دليل على أنه اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ولا يقنط من رحمة الله ; لأنه يدعو كريما . قال ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة سفيان بن عيينة : لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس ، قال : رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ، قال فإنك من المنظرين ، ، وذلك كالسحر ووقت الفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض ، وعند نزول المطر والصف في سبيل الله . كل هذا جاءت به الآثار ، ويأتي بيانها في مواضعها ، وروى وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة أن شهر بن حوشب قالت له : يا أم الدرداء شهر ألا تجد القشعريرة ؟ قلت نعم . قالت : فادع الله فإن الدعاء مستجاب عند ذلك ، وقال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء [ ص: 292 ] فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرفت السرور في وجهه . قال جابر بن عبد الله جابر : ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة .
الرابعة : قال قوله تعالى : فليستجيبوا لي أبو رجاء الخراساني : فليدعوا لي . وقال ابن عطية : المعنى فليطلبوا أن أجيبهم ، وهذا هو باب استفعل أي طلب الشيء إلا ما شذ مثل استغنى الله ، وقال مجاهد وغيره : المعنى فليجيبوا إلي فيما دعوتهم إليه من الإيمان ، أي الطاعة والعمل ويقال : أجاب واستجاب بمعنى ، ومنه قول الشاعر :
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه . والسين زائدة واللام لام الأمر . وكذا وليؤمنوا وجزمت لام الأمر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط ، وقيل : لأنها لا تقع إلا على الفعل .
والرشاد خلاف الغي ، وقد رشد يرشد رشدا ، ورشد ( بالكسر ) يرشد رشدا ، لغة فيه ، وأرشده الله . والمراشد : مقاصد الطرق ، والطريق الأرشد : نحو الأقصد ، وتقول : هو لرشدة . خلاف قولك : لزنية . وأم راشد : كنية للفأرة ، وبنو رشدان : بطن من العرب ، عن الجوهري ، وقال الهروي : الرشد والرشد والرشاد : الهدى والاستقامة ، ومنه قوله : لعلهم يرشدون .