قوله تعالى : الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار  
قوله تعالى : الذين بدل من قوله للذين اتقوا وإن شئت كان رفعا أي هم الذين ، أو نصبا على المدح . 
ربنا أي : يا ربنا . إننا آمنا أي صدقنا . فاغفر لنا ذنوبنا دعاء بالمغفرة . وقنا عذاب النار تقدم في البقرة . الصابرين يعني عن المعاصي والشهوات ، وقيل : على الطاعات . والصادقين أي في الأفعال والأقوال والقانتين الطائعين . والمنفقين يعني في سبيل الله . وقد تقدم في البقرة هذه المعاني على الكمال . ففسر تعالى في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات    . 
واختلف في معنى قوله تعالى : والمستغفرين بالأسحار  فقال أنس بن مالك    : هم السائلون المغفرة . قتادة    : المصلون . 
قلت : ولا تناقض ، فإنهم يصلون ويستغفرون . وخص السحر بالذكر لأنه مظان القبول ووقت إجابة الدعاء . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير قوله تعالى مخبرا عن يعقوب  عليه السلام لبنيه : سوف أستغفر لكم ربي    : إنه أخر ذلك إلى السحر خرجه الترمذي  وسيأتي . وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل    ( أي الليل أسمع ) ؟ فقال : ( لا أدري غير أن العرش يهتز عند السحر )   . يقال سحر وسحر ، بفتح الحاء وسكونها ، وقال الزجاج    : السحر من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني ، وقال ابن زيد    : السحر هو سدس الليل الآخر . 
 [ ص: 37 ] قلت : أصح من هذا ما روى الأئمة عن  أبي هريرة  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ينزل الله - عز وجل - إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول : أنا الملك ، أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ، من ذا الذي يسألني فأعطيه ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له . فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر في رواية " حتى ينفجر الصبح " لفظ مسلم    . وقد اختلف في تأويله ; وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب  النسائي  مفسرا عن  أبي هريرة  وأبي سعيد    - رضي الله عنهما - قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله - عز وجل - يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له ! هل من مستغفر يغفر له ! هل من سائل يعطى !   . صححه أبو محمد عبد الحق  ، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال ، وأن الأول من باب حذف المضاف ، أي ينزل ملك ربنا فيقول . وقد روي " ينزل " بضم الياء ، وهو يبين ما ذكرنا ، وبالله توفيقنا . وقد أتينا على ذكره في " الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى " . 
مسألة : الاستغفار مندوب إليه ، وقد أثنى الله تعالى على المستغفرين  في هذه الآية وغيرها فقال : وبالأسحار هم يستغفرون . وقال أنس بن مالك    : أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة   . وقال  سفيان الثوري    : بلغني أنه إذا كان أول الليل نادى مناد ليقم القانتون فيقومون كذلك يصلون إلى السحر ، فإذا كان عند السحر نادى مناد : أين المستغفرون فيستغفر أولئك ، ويقوم آخرون فيصلون فيلحقون بهم . فإذا طلع الفجر نادى مناد : ألا ليقم الغافلون فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم   . وروي عن أنس  سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله يقول إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المتهجدين والمستغفرين بالأسحار صرفت عنهم العذاب بهم   . قال مكحول    : إذا كان في أمة خمسة عشر رجلا يستغفرون الله كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تلك الأمة بعذاب العامة   . وذكره أبو نعيم  في كتاب الحلية له . وقال نافع    : كان ابن عمر  يحيي الليل ثم يقول : يا نافع  أسحرنا ؟ فأقول : لا . فيعاود الصلاة ثم يسأل ، فإذا قلت نعم قعد يستغفر   . وروى   [ ص: 38 ] إبراهيم بن حاطب  عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول : يا رب ، أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر فاغفر لي . فنظرت فإذا هو ابن مسعود    . 
قلت : فهذا كله يدل على أنه استغفار باللسان مع حضور القلب . لا ما قال ابن زيد  أن المراد بالمستغفرين الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة ، والله أعلم . وقال لقمان  لابنه : ( يا بني لا يكن الديك أكيس منك ، ينادي بالأسحار وأنت نائم ) . والمختار من لفظ الاستغفار ما رواه البخاري  عن شداد بن أوس  ، وليس له في الجامع غيره ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي ، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . قال : ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليله قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة   . وروى  أبو محمد عبد الغني بن سعيد  من حديث ابن لهيعة  عن أبي صخر  عن أبي معاوية  عن سعيد بن جبير  عن أبي الصهباء البكري  عن علي بن أبي طالب  ، - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد علي بن أبي طالب    - رضي الله عنه - ثم قال : ألا أعلمك كلمات تقولهن لو كانت ذنوبك كمدب النمل ، أو كمدب الذر لغفرها الله لك على أنه مغفور لك : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					