قوله تعالى : فتقبلها ربها بقبول حسن المعنى : سلك بها طريق السعداء ; عن ابن عباس . وقال قوم : معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها . وقال الحسن : معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار . وأنبتها نباتا حسنا يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد . والقبول والنبات مصدران على غير المصدر ، والأصل تقبلا وإنباتا . قال الشاعر :
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
أراد بعد إعطائك ، لكن لما قال أنبتها دل على نبت ; كما قال امرؤ القيس :فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال
وقد تطويت انطواء الحضب
الأفعى لأن معنى تطويت وانطويت واحد ; ومثله قول القطامي :وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا
[ ص: 66 ] قوله تعالى : وكفلها زكريا أي ضمها إليه . أبو عبيدة : ضمن القيام بها . وقرأ الكوفيون وكفلها بالتشديد ، فهو يتعدى إلى مفعولين ; والتقدير وكفلها ربها زكريا ، أي ألزمه كفالتها وقدر ذلك عليه ويسره له . وفي مصحف أبي ( وأكفلها ) والهمزة كالتشديد في التعدي ; وأيضا فإن قبله فتقبلها ، و أنبتها فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها ; فجاء كفلها بالتشديد على ذلك . وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا . فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولى كفالتها والقيام بها ; بدلالة قوله : أيهم يكفل مريم . قال مكي : وهو الاختيار ; لأن التشديد يرجع إلى التخفيف ، لأن الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله ، ولأن زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته ; فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان . وروى عمرو بن موسى عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المزني " وكفلها " بكسر الفاء . قال الأخفش : يقال كفل يكفل وكفل يكفل ولم أسمع كفل ، وقد ذكرت . وقرأ مجاهد " فتقبلها " بإسكان اللام على المسألة والطلب . " ربها " بالنصب نداء مضاف . " وأنبتها " بإسكان التاء " وكفلها " بإسكان اللام " زكرياء " بالمد والنصب . وقرأ حفص وحمزة والكسائي زكريا بغير مد ولا همزة ، ومده الباقون وهمزوه . وقال الفراء : أهل الحجاز يمدون " زكرياء " ويقصرونه ، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون : زكري . قال الأخفش : فيه أربع لغات : المد والقصر ، وزكري بتشديد الياء والصرف ، وزكر ورأيت زكريا . قال أبو حاتم : زكري بلا صرف لأنه أعجمي وهذا غلط ; لأن ما كان فيه " يا " مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى ، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لأن فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف .
قوله تعالى : كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا إلى قوله إنك سميع الدعاء
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : كلما دخل عليها زكريا المحراب المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس . وسيأتي له مزيد بيان في سورة ( مريم ) . وجاء في الخبر : إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم . قال وضاح اليمن :
ربة محراب إذا جئتها لم ألقها حتى أرتقي سلما
أنى ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب
إن الله يرزق من يشاء بغير حساب قيل : هو من قول مريم ، ويجوز أن يكون مستأنفا ; فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد . الثانية : هنالك دعا زكريا ربه هنالك في موضع نصب ; لأنه ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان . وقال المفضل بن سلمة : " هنالك " في الزمان و " هناك " في المكان ، وقد يجعل هذا مكان هذا . هب لي أعطني . من لدنك من عندك . ذرية طيبة أي نسلا صالحا . والذرية تكون واحدة وتكون جمعا ذكرا وأنثى ، وهو هنا واحد . يدل عليه قوله . فهب لي من لدنك وليا ولم يقل أولياء ، وإنما أنث طيبة لتأنيث لفظ الذرية ; كقوله :
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال
وروي من حديث أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 68 ] أي رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله له مثل أجر عملهم ولم ينقص من أجورهم شيئا . وقد مضى في " البقرة " اشتقاق الذرية . و ( طيبة ) أي صالحة مباركة . إنك سميع الدعاء أي قابله ; ومنه : سمع الله لمن حمده .
الثالثة : دلت هذه الآية على طلب الولد ، وهي سنة المرسلين والصديقين ، قال الله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية . وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو أجاز له ذلك لاختصينا . وخرج ابن ماجه عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء . وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال : الذي يطلب الولد أحمق ، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق ; قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل : واجعل لي لسان صدق في الآخرين وقال : والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين . وقد ترجم البخاري على هذا ( باب طلب الولد ) . وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة حين مات ابنه : ( أعرستم الليلة ) ؟ قال : نعم . قال : ( بارك الله لكما في غابر ليلتكما ) . قال فحملت . في البخاري : قال سفيان فقال رجل من الأنصار : فرأيت [ ص: 69 ] تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن . وترجم أيضا " باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة " وساق حديث أنس بن مالك قال : قالت أم سليم : يا رسول الله ، خادمك أنس ادع الله له . فقال : اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته . وقال - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين . خرجه البخاري ومسلم . وقال - صلى الله عليه وسلم - : تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم . أخرجه أبو داود . والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه ; لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته . قال - صلى الله عليه وسلم - : إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر ( أو ولد صالح يدعو له ) . ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية .
الرابعة : فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية ، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه ; ألا ترى قول زكريا : واجعله رب رضيا وقال : ذرية طيبة . وقال : هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين . ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنس فقال : اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه . خرجه البخاري ومسلم ، وحسبك .


