[ ص: 231 ]  ( ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون    ( 51 ) أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين   ( 52 ) فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين   ( 53 ) فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين   ( 54 ) فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين   ( 55 ) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين   ( 56 ) ) . 
يقول تعالى مخبرا عن فرعون  وتمرده وعتوه وكفره وعناده : أنه جمع قومه ، فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها : ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي   ) ، قال قتادة  قد كانت لهم جنان وأنهار ماء ، ( أفلا تبصرون   ) ؟ أي : أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك ، يعني : وموسى  وأتباعه فقراء ضعفاء . وهذا كقوله تعالى : ( فحشر فنادى . فقال أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى   ) [ النازعات : 23 - 25 ] . 
وقوله : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين   ) قال  السدي   : يقول : بل أنا خير من هذا الذي هو مهين . وهكذا قال بعض نحاة البصرة   : إن " أم " هاهنا بمعنى " بل " . ويؤيد هذا ما حكاه الفراء  عن بعض القراء أنه قرأها : " أما أنا خير من هذا الذي هو مهين " . قال ابن جرير   : ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحا واضحا ، ولكنها خلاف قراءة الأمصار ، فإنهم قرءوا : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين   ) ؟ على الاستفهام . 
قلت : وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون   - عليه اللعنة - أنه خير من موسى ،  عليه السلام ، وقد كذب في قوله هذا كذبا بينا واضحا ، فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة . 
ويعني بقوله : ( مهين ) كما قال سفيان   : حقير . وقال قتادة   والسدي   : يعني : ضعيفا . وقال ابن جرير   : يعني : لا ملك له ولا سلطان ولا مال . 
( ولا يكاد يبين   ) يعني : لا يكاد يفصح عن كلامه ، فهو عيي حصر . 
قال  السدي   : ( ولا يكاد يبين   ) أي : لا يكاد يفهم . وقال قتادة  ،  والسدي  ،  وابن جرير   : يعني عيي اللسان . وقال سفيان   : يعني في لسانه شيء من الجمرة حين وضعها في فيه وهو صغير . 
وهذا الذي قاله فرعون   - لعنه الله - كذب واختلاق ، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد ، وهو ينظر إلى موسى ،  عليه السلام ، بعين كافرة شقية ، وقد كان موسى  ، عليه السلام ، من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي [ الأبصار و ] الألباب . وقوله : ( مهين ) كذب ، بل هو المهين الحقير خلقة وخلقا ودينا . وموسى   [ عليه السلام ] هو الشريف الرئيس الصادق البار  [ ص: 232 ] الراشد . وقوله : ( ولا يكاد يبين   ) افتراء أيضا ، فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة ، فقد سأل الله ، عز وجل ، أن يحل عقدة من لسانه ؛ ليفقهوا قوله ، وقد استجاب الله له في [ ذلك في ] قوله : ( قال قد أوتيت سؤلك ياموسى   ) [ طه : 26 ] ، وبتقدير أن يكون قد بقي شيء لم يسأل إزالته ، كما قاله  الحسن البصري  ، وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام ، فالأشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها ، وفرعون  وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا ، وإنما أراد الترويج على رعيته ، فإنهم كانوا جهلة أغبياء ، وهكذا كقوله : ( فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب ) أي : وهي ما يجعل في الأيدي من الحلي ، قاله ابن عباس  وقتادة  وغير واحد ، ( أو جاء معه الملائكة مقترنين   ) أي : يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه ، نظر إلى الشكل الظاهر ، ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه ، لو كان يعلم ; ولهذا قال تعالى : ( فاستخف قومه فأطاعوه   ) أي : استخف عقولهم ، فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له ، ( إنهم كانوا قوما فاسقين   ) . 
قال الله تعالى : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين    ) ، قال علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس   : ( آسفونا ) أسخطونا . 
وقال الضحاك  ، عنه : أغضبونا . وهكذا قال ابن عباس  أيضا ، ومجاهد  ، وعكرمة  ،  وسعيد بن جبير   ، ومحمد بن كعب القرظي  ، وقتادة  ،  والسدي  ، وغيرهم من المفسرين . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب  ، حدثنا عمي ، حدثنا ابن لهيعة  ، عن عقبة بن مسلم التجيبي  عن عقبة بن عامر  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد ما شاء ، وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك استدراج منه له " ثم تلا ( فلما آسفونا انتقمنا منهم   )  . 
وحدثنا أبي ، حدثنا  يحيى بن عبد الحميد الحماني  ، حدثنا قيس بن الربيع  ، عن  قيس بن مسلم  ، عن  طارق بن شهاب  قال : كنت عند عبد الله  فذكر عنده موت الفجأة ، فقال : تخفيف على المؤمن ، وحسرة على الكافر . ثم قرأ : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم   ) . 
وقال عمر بن عبد العزيز  رضي الله عنه : وجدت النقمة مع الغفلة ، يعني قوله : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين   ) . 
وقوله : ( فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين   ) : قال أبو مجلز   : ( سلفا ) لمثل من عمل بعملهم . 
 [ ص: 233 ] 
وقال هو ومجاهد   : ( ومثلا ) أي عبرة لمن بعدهم  . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					