[ ص: 493 ] تفسير السورة التي يذكر فيها الماعون وهي مكية . 
بسم الله الرحمن الرحيم 
( أرأيت الذي يكذب بالدين   ( 1 ) فذلك الذي يدع اليتيم   ( 2 ) ولا يحض على طعام المسكين   ( 3 ) فويل للمصلين   ( 4 ) الذين هم عن صلاتهم ساهون   ( 5 ) الذين هم يراءون   ( 6 ) ويمنعون الماعون   ( 7 ) ) 
يقول تعالى : أرأيت - يا محمد   - الذي يكذب بالدين ؟ وهو : المعاد والجزاء والثواب ( فذلك الذي يدع اليتيم   ) أي : هو الذي يقهر اليتيم ويظلمه حقه ، ولا يطعمه ولا يحسن إليه ( ولا يحض على طعام المسكين   ) كما قال تعالى : ( كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين   ) [ الفجر : 17 ، 18 ] يعني : الفقير الذي لا شيء له يقوم بأوده وكفايته . 
ثم قال :  ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون   ) قال ابن عباس  ، وغيره : يعني المنافقين ، الذين يصلون في العلانية ولا يصلون في السر  . 
ولهذا قال : ( للمصلين   ) أي : الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها ، ثم هم عنها ساهون ، إما عن فعلها بالكلية ، كما قاله ابن عباس  ، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا ، فيخرجها عن وقتها بالكلية ، كما قاله مسروق  وأبو الضحى   . 
وقال عطاء بن دينار   : والحمد لله الذي قال : ( عن صلاتهم ساهون   ) ولم يقل : في صلاتهم ساهون  . 
وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا . وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به . وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها ، فاللفظ يشمل هذا كله ، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية . ومن اتصف بجميع ذلك ، فقد تم نصيبه منها ، وكمل له النفاق العملي . كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  " تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس ، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا " فهذا آخر صلاة العصر التي هي الوسطى ، كما ثبت به النص إلى آخر وقتها ، وهو وقت كراهة ، ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب ، لم يطمئن ولا خشع فيها أيضا ; ولهذا قال : " لا يذكر الله فيها إلا قليلا " . ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس ، لا ابتغاء وجه  [ ص: 494 ] الله ، فهو إذا لم يصل بالكلية . قال تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا   ) [ النساء : 142 ] . وقال هاهنا : ( الذين هم يراءون   ) 
وقال  الطبراني   : حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبدويه البغدادي  ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء  ، عن يونس  ، عن الحسن  ، عن ابن عباس  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  " إن في جهنم لواديا تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل يوم أربعمائة مرة ، أعد ذلك الوادي للمرائين من أمة محمد   : لحامل كتاب الله ، وللمصدق في غير ذات الله ، وللحاج إلى بيت الله ، وللخارج في سبيل الله "  . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا أبو نعيم  ، حدثنا الأعمش  ، عن عمرو بن مرة  قال : كنا جلوسا عند أبي عبيدة  فذكروا الرياء ، فقال رجل يكنى بأبي يزيد   : سمعت عبد الله بن عمرو  يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " من سمع الناس بعمله ، سمع الله به سامع خلقه ، وحقره وصغره "  . 
ورواه أيضا عن غندر  ،  ويحيى القطان  ، عن شعبة  ، عن عمرو بن مرة  ، عن رجل ، عن عبد الله بن عمرو  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره . 
ومما يتعلق بقوله تعالى : ( الذين هم يراءون   ) أن من عمل عملا لله فاطلع عليه الناس ، فأعجبه ذلك ، أن هذا لا يعد رياء ، والدليل على ذلك ما رواه  الحافظ أبو يعلى الموصلي  في مسنده : حدثنا هارون بن معروف  ، حدثنا مخلد بن يزيد  ، حدثنا  سعيد بن بشير  ، حدثنا الأعمش  ، عن أبي صالح  ، عن  أبي هريرة  قال : كنت أصلي ، فدخل علي رجل ، فأعجبني ذلك ، فذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " كتب لك أجران : أجر السر ، وأجر العلانية "  . 
قال أبو علي هارون بن معروف   : بلغني أن ابن المبارك  قال : نعم الحديث للمرائين . 
وهذا حديث غريب من هذا الوجه  وسعيد بن بشير  متوسط ، وروايته عن الأعمش  عزيزة ، وقد رواه غيره عنه . 
قال أبو يعلى  أيضا : حدثنا  محمد بن المثنى بن موسى  ، حدثنا أبو داود  ، حدثنا أبو سنان  ، عن حبيب بن أبي ثابت  ، عن أبي صالح  ، عن  أبي هريرة  قال : قال رجل : يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل يسره ، فإذا اطلع عليه أعجبه . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " له أجران : أجر السر  [ ص: 495 ] وأجر العلانية "  . 
وقد رواه الترمذي  ، عن  محمد بن المثنى   .  وابن ماجه  ، عن بندار  ، كلاهما عن  أبي داود الطيالسي  ، عن أبي سنان الشيباني - واسمه : ضرار بن مرة   . ثم قال الترمذي   : غريب ، وقد رواه الأعمش  وغيره . عن حبيب  عن [ النبي صلى الله عليه وسلم ] مرسلا . 
وقد قال أبو جعفر بن جرير   : حدثني أبو كريب  ، حدثنا معاوية بن هشام  ، عن شيبان النحوي  ، عن جابر الجعفي  ، حدثني رجل ، عن  أبي برزة الأسلمي  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية : ( الذين هم عن صلاتهم ساهون   ) قال : " الله أكبر ، هذا خير لكم من أن لو أعطي كل رجل منكم مثل جميع الدنيا ، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته ، وإن تركها لم يخف ربه "  . 
فيه جابر الجعفي  ، وهو ضعيف ، وشيخه مبهم لم يسم ، والله أعلم . 
وقال ابن جرير  أيضا : حدثني زكريا بن أبان المصري  ، حدثنا عمرو بن طارق  ، حدثنا عكرمة بن إبراهيم  ، حدثني  عبد الملك بن عمير  ، عن مصعب بن سعد  عن  سعد بن أبي وقاص  قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن : ( الذين هم عن صلاتهم ساهون   ) قال : " هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها "  . 
وتأخير الصلاة عن وقتها يحتمل تركها بالكلية ، أو صلاتها بعد وقتها شرعا ، أو تأخيرها عن أول الوقت [ سهوا حتى ضاع ] الوقت . 
وكذا رواه  الحافظ أبو يعلى  ، عن  شيبان بن فروخ  ، عن عكرمة بن إبراهيم  به . ثم رواه عن أبي الربيع  ، عن جابر  ، عن عاصم  ، عن مصعب  ، عن أبيه موقوفا ، وهذا أصح إسنادا ، وقد ضعف  البيهقي  رفعه ، وصحح وقفه ، وكذلك  الحاكم   . 
وقوله : ( ويمنعون الماعون   ) أي : لا أحسنوا عبادة ربهم ، ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به ، مع بقاء عينه ورجوعه إليهم . فهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى . وقد قال ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد   : قال علي   : الماعون : الزكاة  . وكذا رواه  السدي  ، عن أبي صالح  ، عن علي   . وكذا روي من غير وجه عن ابن عمر   . وبه يقول  محمد بن الحنفية  ،  وسعيد بن جبير  ، وعكرمة  ، ومجاهد  ،  وعطاء  ،  وعطية العوفي  ،  والزهري  ، والحسن  ، وقتادة  ، والضحاك  ، وابن زيد   . 
 [ ص: 496 ] 
وقال  الحسن البصري   : إن صلى راءى ، وإن فاتته لم يأس عليها ، ويمنع زكاة ماله وفي لفظ : صدقة ماله . 
وقال  زيد بن أسلم   : هم المنافقون ظهرت الصلاة فصلوها ، وضمنت الزكاة فمنعوها . 
وقال الأعمش  وشعبة  ، عن الحكم  ، عن يحيى بن الجزار   : أن أبا العبيدين  سأل  عبد الله بن مسعود  عن الماعون ، فقال : هو ما يتعاوره الناس بينهم من الفأس والقدر ، [ والدلو ]  . 
[ وقال المسعودي  ، عن سلمة بن كهيل  ، عن أبي العبيدين   : أنه سئل ابن مسعود  عن الماعون ، فقال : هو ما يتعاطاه الناس بينهم ، من الفأس والقدر ] والدلو ، وأشباه ذلك  . 
وقال ابن جرير   : حدثني محمد بن عبيد المحاربي  ، حدثنا أبو الأحوص  ، عن أبي إسحاق  ، عن أبي العبيدين  وسعد بن عياض  ، عن عبد الله  قال : كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الماعون الدلو ، والفأس ، والقدر ، لا يستغنى عنهن  . 
وحدثنا خلاد بن أسلم  ، أخبرنا النضر بن شميل  ، أخبرنا شعبة  ، عن أبي إسحاق  قال : سمعت سعد بن عياض  يحدث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثله . 
وقال الأعمش  ، عن إبراهيم  ، عن الحارث بن سويد  عن عبد الله  أنه سئل عن الماعون ، فقال : ما يتعاوره الناس بينهم : الفأس والدلو وشبهه  . 
وقال ابن جرير   : حدثنا عمرو بن علي الفلاس  ، حدثنا  أبو داود - هو الطيالسي -  ، حدثنا أبو عوانة  ، عن  عاصم بن بهدلة  ، عن أبي وائل  ، عن عبد الله  قال : كنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم ونحن نقول : الماعون : منع الدلو وأشباه ذلك  . 
وقد رواه أبو داود   والنسائي  ، عن قتيبة  ، عن أبي عوانة  بإسناده نحوه ، ولفظ  النسائي  عن عبد الله  قال : كل معروف صدقة ، وكنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر  . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا عفان  ، حدثنا حماد بن سلمة  ، عن عاصم  ، عن زر  ، عن عبد الله  قال : الماعون : العواري : القدر ، والميزان ، والدلو  . 
وقال ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  عن ابن عباس   : ( ويمنعون الماعون   ) يعني : متاع البيت  . وكذا قال مجاهد   وإبراهيم النخعي   وسعيد بن جبير  وأبو مالك  ، وغير واحد : إنها العارية للأمتعة . 
وقال ليث بن أبي سليم  ، عن مجاهد  عن ابن عباس   : ( ويمنعون الماعون   ) قال : لم يجئ أهلها بعد  . 
 [ ص: 497 ] 
وقال العوفي  عن ابن عباس   : ( ويمنعون الماعون   ) قال : اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من قال : يمنعون الزكاة . ومنهم من قال : يمنعون الطاعة . ومنهم من قال : يمنعون العارية  . رواه ابن جرير   . ثم روي عن يعقوب بن إبراهيم  ، عن  ابن علية  ، عن ليث بن أبي سليم  ، عن أبي إسحاق  ، عن الحارث  ، عن علي   : الماعون : منع الناس الفأس ، والقدر ، والدلو  . 
وقال عكرمة   : رأس الماعون زكاة المال ، وأدناه المنخل والدلو ، والإبرة  . رواه ابن أبى حاتم   . 
وهذا الذي قاله عكرمة  حسن ; فإنه يشمل الأقوال كلها ، وترجع كلها إلى شيء واحد . وهو ترك المعاونة بمال أو منفعة . ولهذا قال محمد بن كعب   : ( ويمنعون الماعون   ) قال : المعروف  . ولهذا جاء في الحديث :  " كل معروف صدقة "  . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبو سعيد الأشج  ، حدثنا  وكيع  ، عن ابن أبي ذئب  عن الزهري   : ( ويمنعون الماعون   ) قال : بلسان قريش : المال  . 
وروى هاهنا حديثا غريبا عجيبا في إسناده ومتنه فقال : 
حدثنا أبي وأبو زرعة  ، قالا : حدثنا قيس بن حفص الدارمي  ، حدثنا دلهم بن دهثم العجلي  ، حدثنا عائذ بن ربيعة النميري  ، حدثني قرة بن دعموص النميري   : أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، ما تعهد إلينا ؟ قال : " لا تمنعون الماعون " . قالوا : يا رسول الله ، وما الماعون ؟ قال : " في الحجر ، وفي الحديدة ، وفي الماء " . قالوا : فأي حديدة ؟ قال : " قدوركم النحاس ، وحديد الفأس الذي تمتهنون به " . قالوا : وما الحجر ؟ قال : " قدوركم الحجارة "  . 
غريب جدا ، ورفعه منكر ، وفي إسناده من لا يعرف ، والله أعلم . 
وقد ذكر  ابن الأثير  في الصحابة ترجمة  " علي النميري "  ، فقال : روى ابن قانع  بسنده إلى عائذ بن ربيعة بن قيس النميري  ، عن علي بن فلان النميري   : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :  " المسلم أخو المسلم . إذا لقيه حياه بالسلام ، ويرد عليه ما هو خير منه ، لا يمنع الماعون " . قلت : يا رسول الله ، ما الماعون ؟ قال : " الحجر ، والحديد ، وأشباه ذلك "  . 
آخر تفسير سورة " الماعون " . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					