( إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون   ( 55 ) فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين   ( 56 ) وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين   ( 57 ) ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم   ( 58 ) ) 
اختلف المفسرون في قوله : ( إني متوفيك ورافعك إلي   ) فقال قتادة  وغيره : هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره : إني رافعك إلي ومتوفيك ، يعني بعد ذلك . 
 [ ص: 47 ] وقال علي بن أبي طلحة  عن ابن عباس   : ( إني متوفيك   ) أي : مميتك . 
وقال محمد بن إسحاق ،  عمن لا يتهم ، عن  وهب بن منبه ،  قال : توفاه الله ثلاث ساعات من النهار حين رفعه الله إليه . 
قال ابن إسحاق   : والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه . 
وقال  إسحاق بن بشر  عن إدريس ،  عن وهب   : أماته الله ثلاثة أيام ، ثم بعثه ، ثم رفعه . 
وقال  مطر الوراق   : متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت وكذا قال ابن جرير   : توفيه هو رفعه . 
وقال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا : النوم ، كما قال تعالى : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل [ ويعلم ما جرحتم بالنهار ]   ) [ الأنعام : 60 ] وقال تعالى : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ]   ) [ الزمر : 42 ] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - إذا قام من النوم - :  " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور " ، وقال الله تعالى : ( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله   ) إلى قوله [ تعالى ] ( وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا   ) [ النساء : 156 - 159 ] والضمير في قوله : ( قبل موته   ) عائد على عيسى ،  عليه السلام ، أي : وإن من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى  قبل موت عيسى ،  وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ، على ما سيأتي بيانه ، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم ، لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ،  حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ،  عن أبيه ، حدثنا الربيع بن أنس ،  عن الحسن  أنه قال في قوله : ( إني متوفيك   ) يعني وفاة المنام ، رفعه الله في منامه . قال الحسن   : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود :  " إن عيسى  لم يمت ، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة "  . 
وقوله تعالى : ( ومطهرك من الذين كفروا   ) أي : برفعي إياك إلى السماء ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة   ) وهكذا وقع ، فإن المسيح ، عليه السلام ، لما رفعه الله إلى السماء تفرقت أصحابه شيعا بعده ، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته ، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله ، وآخرون قالوا : هو الله . وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة . وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن ، ورد على كل فريق ، فاستمروا كذلك قريبا من ثلاثمائة سنة ، ثم نبع لهم ملك  [ ص: 48 ] من ملوك اليونان ، يقال له : قسطنطين ،  فدخل في دين النصرانية ، قيل : حيلة ليفسده ، فإنه كان فيلسوفا ، وقيل : جهلا منه ، إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه ، وزاد فيه ونقص منه ، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة - التي هي الخيانة الحقيرة - وأحل في زمانه لحم الخنزير ، وصلوا له إلى المشرق وصوروا له الكنائس ، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه ، فيما يزعمون . وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد ، وبنى المدينة المنسوبة إليه ، واتبعه الطائفة الملكية منهم . وهم في هذا كله قاهرون لليهود ، أيدهم الله عليهم لأنهم أقرب إلى الحق منهم ، وإن كان الجميع كفارا ، عليهم لعائن الله . 
فلما بعث الله محمدا  صلى الله عليه وسلم ، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق - كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض - إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي ، خاتم الرسل ، وسيد ولد آدم ، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق ، فكانوا أولى بكل نبي من أمته ، الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته ، مع ما قد حرفوا وبدلوا . 
ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله بشريعته شريعة جميع الرسل بما بعث به محمدا  صلى الله عليه وسلم من الدين الحق ، الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة ، ولا يزال قائما منصورا ظاهرا على كل دين . فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها ، واحتازوا جميع الممالك ، ودانت لهم جميع الدول ، وكسروا كسرى ، وقصروا قيصر ، وسلبوهما كنوزهما ، وأنفقت في سبيل الله ، كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم ، عز وجل ، في قوله : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا   ) الآية [ النور : 65 ] ولهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا سلبوا النصارى بلاد الشام وأجلوهم إلى الروم ، فلجئوا إلى مدينتهم القسطنطينية ، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة . وقد أخبر الصادق المصدوق أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ، ويستفيئون ما فيها من الأموال ، ويقتلون الروم  مقتلة عظيمة جدا ، لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها ، وقد جمعت في هذا جزءا مفردا . ولهذا قال تعالى : ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم   ) أي : يوم القيامة ( فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين   ) وكذلك فعل تعالى بمن كفر بالمسيح  من اليهود ، أو غلا فيه وأطراه من النصارى ، عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن  [ ص: 49 ] الممالك ، وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق ( وما لهم من الله من واق   ) [ الرعد : 34 ] . 
( وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم   ) أي : في الدنيا والآخرة ، في الدنيا بالنصر والظفر ، وفي الآخرة بالجنات العاليات ( والله لا يحب الظالمين   ) 
ثم قال تعالى : ( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم   ) أي : هذا الذي قصصناه عليك يا محمد  في أمر عيسى  ومبدأ ميلاده وكيفية أمره ، هو مما قاله الله تعالى ، وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ ، فلا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى في سورة مريم : ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون . ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون   ) [ مريم : 34 - 35 ] وهاهنا قال تعالى . 
( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون   ( 59 ) الحق من ربك فلا تكن من الممترين   ( 60 ) فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين   ( 61 ) ) 
( إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم   ( 62 ) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين   ( 63 ) ) 
يقول تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله   ) في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب ( كمثل آدم   ) فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم ، بل ( خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون   ) والذي خلق آدم  قادر على خلق عيسى  بطريق الأولى والأحرى ، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى  بكونه مخلوقا من غير أب ، فجواز ذلك في آدم  بالطريق الأولى ، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل ، فدعواها في عيسى  أشد بطلانا وأظهر فسادا . ولكن الرب ، عز وجل ، أراد أن يظهر قدرته لخلقه ، حين خلق آدم  لا من ذكر ولا من أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى  من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ، ولهذا قال تعالى في سورة مريم : ( ولنجعله آية للناس   ) [ مريم : 21 ] . 
وقال هاهنا : ( الحق من ربك فلا تكن من الممترين   ) أي : هذا القول هو الحق في عيسى ،  الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه ، وماذا بعد الحق إلا الضلال . 
ثم قال تعالى - آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى  بعد ظهور البيان : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم   ) أي : نحضرهم في حال المباهلة ( ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين   ) أي : نلتعن ( فنجعل لعنة الله على الكاذبين   ) أي : منا أو منكم . 
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران ، أن النصارى حين  [ ص: 50 ] قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ،  ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة ردا عليهم ، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار  وغيره . 
قال ابن إسحاق  في سيرته المشهورة وغيره : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ،  ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يئول إليهم أمرهم ، وهم : العاقب ، واسمه عبد المسيح ،  والسيد ، وهو الأيهم ،  وأبو حارثة بن علقمة  أخو بكر بن وائل ،  وأوس بن الحارث  وزيد ،  وقيس ،  ويزيد ،  ونبيه ،  وخويلد ،  وعمرو ،  وخالد ،  وعبد الله ،  ويحنس   . 
وأمر هؤلاء يئول إلى ثلاثة منهم ، وهم : العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، وأبو حارثة بن علقمة  وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل ،  ولكنه تنصر ، فعظمته الروم  وملوكها وشرفوه ، وبنوا له الكنائس ومولوه وأخدموه ، لما يعلمونه من صلابته في دينهم . وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأنه وصفته بما علمه من الكتب المتقدمة جيدا ، ولكن احتمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى [ من ] تعظيمه فيها ووجاهته عند أهلها . 
قال ابن إسحاق   : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ،  قال : قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة  فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات : جبب وأردية ، في جمال رجال بني الحارث بن كعب   . قال : يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم . وقد حانت صلاتهم ، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوهم فصلوا إلى المشرق  . 
قال : فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ،  والعاقب عبد المسيح ،  أو السيد الأيهم ، وهم من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف أمرهم ، يقولون : هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة . تعالى الله [ عن ذلك علوا كبيرا ] وكذلك قول النصرانية ، فهم يحتجون في قولهم : " هو الله " بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا وذلك كله بأمر الله ، وليجعله آية للناس . 
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله ، يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم  قبله . 
ويحتجون في قولهم بأنه ثالث ثلاثة ، بقول الله تعالى : فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ، فيقولون : لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت ، ولكنه هو وعيسى  ومريم  وفي  [ ص: 51 ] كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن . 
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسلما " قالا قد أسلمنا . قال : " إنكما لم تسلما فأسلما " قالا بلى ، قد أسلمنا قبلك . قال : " كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير " . قالا فمن أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم ، صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها  . 
ثم تكلم ابن إسحاق  على التفسير إلى أن قال : فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى ذلك ، فقالوا : يا أبا القاسم ،  دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبد المسيح ، ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا  لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم [ قد ] أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم . 
فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ،  قد رأينا ألا نلاعنك ، ونتركك على دينك ، ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضا . 
قال محمد بن جعفر   : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين " ، فكان  عمر بن الخطاب  يقول : ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فرحت إلى الظهر مهجرا ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ، ثم نظر عن يمينه وعن يساره ، فجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى  أبا عبيدة بن الجراح  ، فدعاه : " اخرج معهم ، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه " . قال عمر   : فذهب بها أبو عبيدة ،  رضي الله عنه  . 
وقد روى ابن مردويه  من طريق محمد بن إسحاق ،  عن  عاصم بن عمر بن قتادة  ، عن محمود بن لبيد  ، عن رافع بن خديج   : أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه ، إلا أنه قال في الأشراف : كانوا اثني عشر . وذكر بقيته بأطول من هذا السياق ، وزيادات أخر . 
وقال البخاري : حدثنا عباس بن الحسين  ، حدثنا  يحيى بن آدم  ، عن إسرائيل  ، عن أبي إسحاق  ، عن  صلة بن زفر  ، عن حذيفة  قال : جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن  [ ص: 52 ] يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله إن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا . قالا إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا رجلا أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا . فقال : " لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين " ، فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " قم يا أبا عبيدة بن الجراح " فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا أمين هذه الأمة "  . 
[ و ] رواه  البخاري  أيضا ، ومسلم  ،  والترمذي  ،  والنسائي  ،  وابن ماجه  من طرق عن  أبي إسحاق السبيعي  ، عن صلة  ، عن حذيفة  ، بنحوه . 
وقد رواه أحمد  ،  والنسائي  ،  وابن ماجه  ، من حديث إسرائيل  عن أبي إسحاق  ، عن صلة  عن ابن مسعود  ، بنحوه . 
وقال  البخاري   : حدثنا أبو الوليد  ، حدثنا شعبة  ، عن خالد  ، عن أبي قلابة  ، عن أنس  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  " لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح "  . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد  ، حدثنا فرات  ، عن  عبد الكريم بن مالك الجزري   " عن عكرمة  ، عن ابن عباس  ، قال : قال أبو جهل   : إن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه . قال : فقال : " لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا "  . 
وقد رواه الترمذي  ،  والنسائي  ، من حديث عبد الرزاق  ، عن معمر  ، عن عبد الكريم  ، به . وقال الترمذي   : [ حديث ] حسن صحيح . 
وقد روى  البيهقي  في دلائل النبوة قصة وفد نجران مطولة جدا ، ولنذكره فإن فيه فوائد كثيرة ، وفيه غرابة وفيه مناسبة لهذا المقام ، قال  البيهقي   : 
حدثنا أبو عبد الله الحافظ  وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل  ، قالا حدثنا  أبو العباس محمد بن يعقوب  ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار  ، حدثنا  يونس بن بكير  ، عن سلمة بن عبد يسوع  ، عن أبيه ، عن جده قال يونس   - وكان نصرانيا فأسلم - : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان : " باسم إله إبراهيم  وإسحاق  ويعقوب ،  من محمد  النبي رسول الله إلى أسقف  [ ص: 53 ] نجران  وأهل نجران  سلم أنتم ، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم  وإسحاق  ويعقوب   . أما بعد ، فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام " . 
فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه فظع به ، وذعره ذعرا شديدا ، وبعث إلى رجل من أهل نجران  يقال له : شرحبيل بن وداعة - وكان من همدان  ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله ، لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب - فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل  ، فقرأه ، فقال الأسقف : يا أبا مريم  ، ما رأيك ؟ فقال شرحبيل   : قد علمت ما وعد الله إبراهيم  في ذرية إسماعيل  من النبوة ، فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، ولو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي ، وجهدت لك ، فقال له الأسقف : تنح فاجلس . فتنحى شرحبيل فجلس ناحية ، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران ، يقال له : عبد الله بن شرحبيل  ، وهو من ذي أصبح من حمير ، فأقرأه الكتاب ، وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل  ، فقال له الأسقف : فاجلس ، فتنحى فجلس ناحية . وبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران ،  يقال له : جبار بن فيض  ، من بني الحارث بن كعب ،  أحد بني الحماس ،  فأقرأه الكتاب ، وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له مثل قول شرحبيل  وعبد الله  ، فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحية . 
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا ، أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ، ورفعت النيران والمسوح في الصوامع ، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار ، وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ، ورفعت النيران في الصوامع ، فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله - وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع ، وفيه ثلاث وسبعون قرية ، وعشرون ومائة ألف مقاتل . فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألهم عن الرأي فيه ، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني  ، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي  ، وجبار بن فيض الحارثي  ، فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة  وضعوا ثياب السفر عنهم ، ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة ، وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه ، فلم يرد عليهم وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب . فانطلقوا يتبعون  عثمان بن عفان   وعبد الرحمن بن عوف  ، وكانا معرفة لهم ، فوجدوهما في ناس من المهاجرين  والأنصار  في مجلس ، فقالوا : يا عثمان  ويا عبد الرحمن  ، إن نبيكم كتب إلينا بكتاب ، فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا ، فما الرأي منكما ، أترون أن نرجع ؟ فقالا  لعلي بن أبي طالب   - وهو في  [ ص: 54 ] القوم - : ما ترى يا أبا الحسن  في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان  ولعبد الرحمن   : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ، ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودا إليه . ففعلوا فسلموا ، فرد سلامهم ، ثم قال : " والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى ، وإن إبليس لمعهم " ثم ساءلهم وساءلوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا : ما تقول في عيسى ،  فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ، يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما عندي فيه شيء يومي هذا ، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى   " . فأصبح الغد وقد أنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم [ خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون . الحق من ربك فلا تكن من الممترين . فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على ] الكاذبين   ) فأبوا أن يقروا بذلك ، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر ، أقبل مشتملا على الحسن  والحسين  في خميل له وفاطمة  تمشي عند ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل  لصاحبيه : قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا ، فكنا أول العرب طعن في عينيه ورد عليه أمره ، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة ، وإنا لأدنى العرب منهم جوارا ، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك . فقال له صاحباه : يا أبا مريم ، فما الرأي ؟ فقال : أرى أن أحكمه ، فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا . فقالا له : أنت وذاك . قال : فلقيشرحبيل  رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك . فقال : " وما هو ؟ " فقال : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعل وراءك أحدا يثرب عليك ؟ " فقال شرحبيل   : سل صاحبي . فسألهما فقالا ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل   : فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم ، حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما كتب محمد  النبي رسول الله لنجران   - إن كان عليهم حكمه - في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم ، وترك ذلك كله لهم ، على ألفي حلة ، في كل رجب ألف حلة ، وفي كل صفر ألف حلة " وذكر تمام الشروط وبقية السياق . 
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع ، لأن الزهري  قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح ، وهي قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ]   ) [ التوبة : 29 ] . 
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد  ، حدثنا أحمد بن داود المكي  ، حدثنا بشر بن  [ ص: 55 ] مهران  ، أخبرنا محمد بن دينار  ، عن  داود بن أبي هند  ، عن الشعبي  ، عن جابر  قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة . قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بيد علي وفاطمة  والحسن  والحسين  ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيئا وأقرا بالخراج ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي بعثني بالحق لو قالا لا لأمطر عليهم الوادي نارا " قال جابر   : فيهم نزلت ( ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم   ) قال جابر   : ( وأنفسنا وأنفسكم   ) رسول الله صلى الله عليه وسلم  وعلي بن أبي طالب   ) وأبناءنا ) : الحسن  والحسين   ( ونساءنا   ) فاطمة   . 
وهكذا رواه  الحاكم  في مستدركه ، عن علي بن عيسى  ، عن أحمد بن محمد الأزهري  عن علي بن حجر  ، عن علي بن مسهر  ، عن  داود بن أبي هند  ، به بمعناه . ثم قال : صحيح على شرط مسلم  ، ولم يخرجاه . 
هكذا قال : وقد رواه  أبو داود الطيالسي  ، عن شعبة  ، عن المغيرة  عن الشعبي  مرسلا وهذا أصح وقد روي عن ابن عباس  والبراء  نحو ذلك . 
ثم قال الله تعالى : ( إن هذا لهو القصص الحق   ) أي : هذا الذي قصصناه عليك يا محمد  في شأن عيسى  هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد ( وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا   ) أي : عن هذا إلى غيره . ( فإن الله عليم بالمفسدين   ) أي : من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به ، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء ، وهو القادر ، الذي لا يفوته شيء [ سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمه ] . 
				
						
						
