( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا    ( 66 ) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما   ( 67 ) ولهديناهم صراطا مستقيما   ( 68 ) ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا   ( 69 ) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما   ( 70 ) ) 
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه ; لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر ، وهذا من علمه - تبارك وتعالى - بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون ; ولهذا قال تعالى : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم   ) 
قال ابن جرير   : حدثني المثنى ،  حدثني إسحاق ،  حدثنا أبو زهير  عن إسماعيل ،  عن  أبي إسحاق السبيعي  ، قال : لما نزلت : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل [ منهم ]   ) الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي "  . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا جعفر بن منير  ، حدثنا روح ،  حدثنا ،  عن الحسن  قال : لما نزلت هذه الآية : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم   ) الآية . قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لو فعل ربنا لفعلنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي  " . 
وقال  السدي   : افتخر  ثابت بن قيس بن شماس  ورجل من اليهود ،  فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا . فقال ثابت   : والله لو كتب علينا : ( أن اقتلوا أنفسكم   ) لقتلنا . فأنزل الله هذه الآية . رواه ابن أبي حاتم   . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غيلان  ، حدثنا بشر بن السري  ، حدثنا مصعب  [ ص: 353 ] بن ثابت  ، عن عمه  عامر بن عبد الله بن الزبير ،  قال : لما نزلت [ ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم   ) قال أبو بكر   : يا رسول الله ، والله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت ، قال : " صدقت يا أبا بكر   " . 
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني  قال : سئل سفيان  عن قوله ] ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم   ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم "  . 
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان  ، حدثنا إسماعيل بن عياش  ، عن  صفوان بن عمرو  ، عن شريح بن عبيد  قال : لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم [ أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ]   ) الآية ، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى عبد الله بن رواحة  ، فقال : " لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل " يعني : ابن رواحة   . 
ولهذا قال تعالى : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به   ) أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به ، وتركوا ما ينهون عنه ( لكان خيرا لهم   ) أي : من مخالفة الأمر وارتكاب النهي ( وأشد تثبيتا   ) قال  السدي   : أي : وأشد تصديقا . 
( وإذا لآتيناهم من لدنا   ) أي : من عندنا ، ( أجرا عظيما   ) يعني : الجنة . ( ولهديناهم صراطا مستقيما   ) أي في الدنيا والآخرة . 
ثم قال تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا   ) أي : من عمل بما أمره الله ورسوله ، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله ، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته  ، ويجعله مرافقا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة ، وهم الصديقون ، ثم الشهداء ، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم . 
ثم أثنى عليهم تعالى فقال : ( وحسن أولئك رفيقا   ) 
وقال  البخاري   : حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب  ، حدثنا إبراهيم بن سعد  ، عن أبيه ، عن عروة ،  عن عائشة  قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة " وكان في شكواه التي قبض فيه ، فأخذته بحة شديدة فسمعته يقول : ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين   ) فعلمت أنه خير  . 
وكذا رواه مسلم  من حديث شعبة ،  عن سعد بن إبراهيم  به . 
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : " اللهم في الرفيق الأعلى  " ثلاثا ثم قضى ، عليه أفضل الصلاة والتسليم . 
ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة   : 
قال ابن جرير   : حدثنا ابن حميد  ، حدثنا يعقوب القمي  ، عن جعفر بن أبي المغيرة  ، عن سعيد بن جبير  قال : جاء رجل من الأنصار  إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا فلان ، ما لي  [ ص: 354 ] أراك محزونا ؟ " قال : يا نبي الله شيء فكرت فيه ؟ قال : " ما هو ؟ " قال : نحن نغدو عليك ونروح ، ننظر إلى وجهك ونجالسك ، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك . فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئا ، فأتاه جبريل  بهذه الآية : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين [ والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ]   ) فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره  . 
قد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق ،  وعكرمة ،   وعامر الشعبي ،  وقتادة ،  وعن الربيع بن أنس ،  وهو من أحسنها سندا . 
قال ابن جرير   : حدثنا المثنى ،  حدثنا ابن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن الربيع ،  قوله : ( ومن يطع الله والرسول [ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من ]   ) الآية ، قال : إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه ، وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا ؟ فأنزل الله في ذلك - يعني هذه الآية - فقال : يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم ، فيجتمعون في رياضها ، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه ، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به ، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه "  . 
وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال أبو بكر بن مردويه   : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم  ، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد  ، حدثنا عبد الله بن عمران  ، حدثنا  فضيل بن عياض  ، عن منصور ،  عن إبراهيم ،  عن الأسود ،  عن عائشة  قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي ، وأحب إلي من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك . فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا   ) 
وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي  في كتابه : " صفة الجنة " ، من طريق  الطبراني ،  عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال  ، عن عبد الله بن عمران العابدي  ، به . ثم قال : لا أرى بإسناده بأسا والله أعلم . 
 [ ص: 355 ] 
وقال ابن مردويه  أيضا : حدثنا سليمان بن أحمد  ، حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي  ، حدثنا أبو بكر بن ثابت بن عباس المصري  حدثنا  خالد بن عبد الله  ، عن عطاء بن السائب  ، عن عامر الشعبي  ، عن ابن عباس  ، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي وأحب أن أكون معك في الدرجة . فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، فأنزل الله عز وجل [ ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا   ) ]  . 
وقد رواه ابن جرير  ، عن ابن حميد  ، عن جرير ،  عن عطاء ،  عن الشعبي ،  مرسلا . وثبت في صحيح مسلم  من حديث هقل بن زياد  ، عن الأوزاعي ،  عن  يحيى بن أبي كثير  عن  أبي سلمة بن عبد الرحمن  ، عن ربيعة بن كعب الأسلمي  أنه قال : كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته ، فقال لي : " سل " . فقلت : يا رسول الله ، أسألك مرافقتك في الجنة . فقال : " أو غير ذلك ؟ " قلت : هو ذاك . قال : " فأعني على نفسك بكثرة السجود "  . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا يحيى بن إسحاق  ، أخبرنا ابن لهيعة  ، عن عبيد الله بن أبي جعفر  ، عن  عيسى بن طلحة  ، عن عمرو بن مرة الجهني  قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه " تفرد به أحمد   . 
قال  الإمام أحمد  أيضا : حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم  ، حدثنا ابن لهيعة  ، عن زبان بن فائد  ، عن سهل بن معاذ بن أنس  ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، إن شاء الله  " . 
وروى الترمذي  من طريق  سفيان الثوري  ، عن أبي حمزة  ، عن  الحسن البصري  ، عن أبي سعيد  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء "  . 
ثم قال : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري   . 
وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما ، من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ فقال : " المرء مع من  [ ص: 356 ] أحب " قال أنس   : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث  . 
وفي رواية عن أنس أنه قال : إني أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحب أبا بكر  وعمر ،  رضي الله عنهما وأرجو أن يبعثني الله معهم وإن لم أعمل كعملهم  . 
وقال الإمام مالك بن أنس  ، عن صفوان بن سليم  ، عن  عطاء بن يسار  ، عن  أبي سعيد الخدري  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم " . قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : " بلى ، والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين  " . 
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك  ولفظه لمسلم   . 
وقال الإمام أحمد بن حنبل   : حدثنا فزارة ،  أخبرني فليح ،  عن  هلال - يعني ابن علي   - عن عطاء ،  عن  أبي هريرة   ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون - أو ترون - الكوكب الدري الغارب في الأفق والطالع في تفاضل الدرجات " . قالوا : يا رسول الله ، أولئك النبيون ؟ قال : " بلى ، والذي نفسي بيده ، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين "  . 
قال الحافظ الضياء المقدسي   : هذا الحديث على شرط  البخاري  والله أعلم . 
وقال  الحافظ أبو القاسم الطبراني  في معجمه الكبير : حدثنا علي بن عبد العزيز  ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي  ، حدثنا عفيف بن سالم  ، عن أيوب بن عتبة  عن عطاء ،  عن ابن عمر  قال : أتى رجل من الحبشة  إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سل واستفهم " . فقال : يا رسول الله ، فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به ، وعملت مثل ما عملت به ، إني لكائن معك في الجنة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم ، والذي نفسي بيده إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام " قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عهد عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة " فقال رجل : كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول الله برحمته " ونزلت هذه الآيات ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا   ) إلى قوله : ( نعيما وملكا كبيرا   ) [ الإنسان : 1 - 20 ] فقال الحبشي : وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم " . فاستبكى حتى فاضت نفسه ، قال ابن عمر   : لقد  [ ص: 357 ] رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيديه  . 
فيه غرابة ونكارة ، وسنده ضعيف . 
ولهذا قال تعالى : ( ذلك الفضل من الله   ) أي : من عند الله برحمته ، هو الذي أهلهم لذلك ، لا بأعمالهم . ( وكفى بالله عليما   ) أي : هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					