[ ص: 165 ]  ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين  والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم   ( 60 ) ) 
لما ذكر [ الله ] تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولمزهم إياه في قسم الصدقات ، بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها ، وتولى أمرها بنفسه ، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره ، فجزأها لهؤلاء المذكورين ، كما رواه الإمام أبو داود  في سننه من حديث  عبد الرحمن بن زياد بن أنعم   - وفيه ضعف - عن زياد بن نعيم  ، عن زياد بن الحارث الصدائي   - رضي الله عنه - قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية : هل يجب استيعاب الدفع إليها أو إلى ما أمكن منها  ؟ على قولين : 
أحدهما : أنه يجب ذلك ، وهو قول الشافعي وجماعة . 
والثاني : أنه لا يجب استيعابها ، بل يجوز الدفع إلى واحد منها ، ويعطى جميع الصدقة مع وجود الباقين . وهو قول مالك  وجماعة من السلف والخلف ، منهم : عمر  ، وحذيفة  ،  وابن عباس  ،  وأبو العالية  ،  وسعيد بن جبير  ،  وميمون بن مهران   . 
قال ابن جرير   : وهو قول عامة أهل العلم ، وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف هاهنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء . 
ولوجوه الحجاج والمآخذ مكان غير هذا ، والله أعلم . 
وإنما قدم الفقراء هاهنا لأنهم أحوج من البقية على المشهور ، لشدة فاقتهم وحاجتهم ، وعند أبي حنيفة  أن المسكين أسوأ حالا من الفقير ، وهو كما قال ، قال ابن جرير   : حدثني يعقوب  ، حدثنا  ابن علية  ، أنبأنا ابن عون  ، عن محمد  قال : قال عمر   - رضي الله عنه - : الفقير ليس بالذي لا مال له ، ولكن الفقير الأخلق الكسب  . قال  ابن علية   : الأخلق : المحارف عندنا . 
والجمهور على خلافه . وروي عن ابن عباس  ، ومجاهد  ، والحسن البصري  ، وابن زيد  ، واختار ابن جرير  وغير واحد أن الفقير : هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ، والمسكين : هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس . 
وقال قتادة   : الفقير : من به زمانة ، والمسكين : الصحيح الجسم . 
 [ ص: 166 ] وقال الثوري  ، عن منصور  ، عن إبراهيم   : هم فقراء المهاجرين . قال  سفيان الثوري   : يعني : ولا يعطى الأعراب منها شيئا . 
وكذا روي عن سعيد بن جبير  ،  وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى   . 
وقال عكرمة   : لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وإنما المساكين مساكين أهل الكتاب   . 
ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية . 
فأما " الفقراء " ، فعن ابن عمرو  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي  . رواه أحمد  ، وأبو داود  ،  والترمذي   . 
 ولأحمد  أيضا ،  والنسائي  ،  وابن ماجه  عن  أبي هريرة  ، مثله . 
وعن  عبيد الله بن عدي بن الخيار  أن رجلين أخبراه : أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألانه من الصدقة ، فقلب إليهما البصر ، فرآهما جلدين ، فقال : إن شئتما أعطيتكما ، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب  . 
رواه أحمد  ، وأبو داود  ،  والنسائي  بإسناد جيد قوي . 
وقال ابن أبي حاتم  في كتاب الجرح [ والتعديل : أبو بكر العبسي  قال : قرأ عمر   - رضي الله عنه - : ( إنما الصدقات للفقراء   ) قال : هم أهل الكتاب ] روى عنه عمر بن نافع  ، سمعت أبي يقول ذلك . 
قلت : وهذا قول غريب جدا بتقدير صحة الإسناد ، فإن أبا بكر  هذا ، وإن لم ينص أبو حاتم  على جهالته ، لكنه في حكم المجهول . 
وأما المساكين : فعن  أبي هريرة   - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ، فترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان . قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا  . 
رواه الشيخان :  البخاري  ومسلم   . 
 [ ص: 167 ] وأما العاملون عليها : فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطا على ذلك ، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تحرم عليهم الصدقة ، لما ثبت في صحيح مسلم  عن  عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث   : أنه انطلق هو  والفضل بن عباس  يسألان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستعملهما على الصدقة ، فقال : إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس  . 
وأما المؤلفة قلوبهم : فأقسام : منهم من يعطى ليسلم ، كما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - صفوان بن أمية  من غنائم حنين ، وقد كان شهدها مشركا . قال : فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن كان أبغض الناس إلي ، كما قال  الإمام أحمد   : 
حدثنا زكريا بن عدي  ، أنا ابن المبارك  ، عن يونس  ، عن الزهري  ، عن  سعيد بن المسيب  ، عن صفوان بن أمية  قال : أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ، وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي  . 
ورواه مسلم   والترمذي  ، من حديث يونس  ، عن الزهري  ، به . 
ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه ، ويثبت قلبه ، كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل ، مائة من الإبل وقال : إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم  . 
وفي الصحيحين عن أبي سعيد   : أن عليا  بعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذهيبة في تربتها من اليمن  فقسمها بين أربعة نفر : الأقرع بن حابس  ، وعيينة بن بدر  ، وعلقمة بن علاثة  ، وزيد الخير  ، وقال : أتألفهم  . 
ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه . ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه ، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد . ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع ، والله أعلم . 
وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم   - ؟ فيه خلاف ، فروي عن عمر  ،  وعامر الشعبي  وجماعة : أنهم لا يعطون بعده ؛ لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ، ومكن لهم في البلاد ، وأذل لهم رقاب العباد . 
وقال آخرون : بل يعطون ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد أعطاهم بعد فتح مكة  وكسر هوازن  ،  [ ص: 168 ] وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم . 
وأما الرقاب : فروي عن  الحسن البصري  ،  ومقاتل بن حيان  ،  وعمر بن عبد العزيز  ،  وسعيد بن جبير  ، والنخعي  ،  والزهري  ، وابن زيد  أنهم المكاتبون ، وروي عن  أبي موسى الأشعري  نحوه ، وهو قول  الشافعي   والليث   . 
وقال ابن عباس  ، والحسن   : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل  ،  ومالك  ، وإسحاق  ، أي : إن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب ، أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا . وقد ورد في ثواب الإعتاق  وفك الرقبة أحاديث كثيرة ، وأن الله يعتق بكل عضو منها عضوا من معتقها حتى الفرج بالفرج ، وما ذاك إلا لأن الجزاء من جنس العمل ، ( وما تجزون إلا ما كنتم تعملون   ) [ الصافات : 39 ] . 
وعن  أبي هريرة   - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاثة حق على الله عونهم : الغازي في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف  . 
رواه  الإمام أحمد  وأهل السنن إلا أبا داود   . 
وفي المسند عن  البراء بن عازب  قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار . فقال : أعتق النسمة وفك الرقبة . فقال : يا رسول الله ، أوليسا واحدا ؟ قال : لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها  . 
وأما الغارمون : فهم أقسام : فمنهم من تحمل حمالة أو ضمن دينا فلزمه ، فأجحف بماله ، أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب ، فهؤلاء يدفع إليهم . والأصل في هذا الباب حديث قبيصة بن مخارق الهلالي  قال : تحملت حمالة ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها ، فقال : أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها . قال : ثم قال : يا قبيصة ، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ، ثم يمسك . ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش : أو قال : سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ، فيقولون : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة ، حتى يصيب قواما من عيش - أو قال : سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة سحت ، يأكلها صاحبها سحتا  . رواه مسلم   . 
 [ ص: 169 ] وعن أبي سعيد  قال : أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها ، فكثر دينه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدقوا عليه . فتصدق الناس فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه : خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك  . رواه مسلم   . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا عبد الصمد  ، أنبأنا صدقة بن موسى  ، عن  أبي عمران الجوني  ، عن قيس بن زيد  عن قاضي المصرين عن عبد الرحمن بن أبي بكر  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه ، فيقول : يا ابن آدم ، فيم أخذت هذا الدين ؟ وفيم ضيعت حقوق الناس ؟ فيقول : يا رب ، إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ، ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة . فيقول الله : صدق عبدي ، أنا أحق من قضى عنك اليوم . فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه ، فترجح حسناته على سيئاته ، فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته  . 
وأما في سبيل الله : فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان ، وعند  الإمام أحمد  ، والحسن  ، وإسحاق   : والحج من سبيل الله ، للحديث . 
وكذلك ابن السبيل   : وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره ، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال . وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء ، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه . والدليل على ذلك الآية وما رواه الإمام أبو داود   وابن ماجه  من حديث معمر  ، عن  زيد بن أسلم  ، عن  عطاء بن يسار  ، عن أبي سعيد   - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : العامل عليها ، أو رجل اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني  . 
وقد رواه السفيانان ، عن  زيد بن أسلم  ، عن عطاء  مرسلا . ولأبي داود  عن عطية العوفي  ، عن  أبي سعيد الخدري  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله ، وابن السبيل ، أو جار فقير فيهدي لك أو يدعوك  . 
وقوله : ( فريضة من الله   ) أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه ( والله عليم حكيم   ) أي : عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده ، ( حكيم ) فيما يفعله ويقوله ويشرعه ويحكم به ،  [ ص: 170 ] لا إله إلا هو ، ولا رب سواه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					