[ ص: 51 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون    ( 50 ) ) 
قال أبو جعفر   : إن قال لنا قائل وكيف غرق الله جل ثناؤه آل فرعون  ونجى بني إسرائيل ؟ 
قيل له ، كما : - 
905 - حدثنا ابن حميد  قال ، حدثنا سلمة  ، عن ابن إسحاق  ، عن  محمد بن كعب القرظي  ، عن  عبد الله بن شداد بن الهاد  قال : لقد ذكر لي أنه خرج فرعون  في طلب موسى  على سبعين ألفا من دهم الخيل ، سوى ما في جنده من شهب الخيل . 
وخرج موسى  ، حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف ، طلع فرعون  في جنده من خلفهم ، ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال   ) موسى   ( كلا إن معي ربي سيهدين   ) [ سورة الشعراء : 61 - 62 ] أي للنجاة ، وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده . 
906 - حدثنا ابن حميد  قال ، حدثنا سلمة  قال ، حدثني ابن إسحاق  قال : أوحى الله إلى البحر - فيما ذكر لي : إذا ضربك موسى  بعصاه فانفلق له . قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقا من الله وانتظاره أمره . فأوحى الله جل وعز إلى موسى   : أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه بها ، وفيها سلطان الله الذي أعطاه ، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، أي كالجبل على نشز من الأرض  [ ص: 52 ]  . يقول الله لموسى   : ( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى   ) [ طه : 77 ] . فلما استقر له البحر على طريق قائمة يبس سلك فيه موسى ببني إسرائيل ، وأتبعه فرعون  بجنوده . 
907 - وحدثنا ابن حميد  قال ، حدثنا سلمة  قال ، حدثني محمد بن إسحاق  ، عن  محمد بن كعب القرظي  ، عن  عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي  قال : حدثت أنه لما دخلت بنو إسرائيل البحر فلم يبق منهم أحد ، أقبل فرعون  وهو على حصان له من الخيل ، حتى وقف على شفير البحر ، وهو قائم على حاله ، فهاب الحصان أن ينفذ . فعرض له جبريل  على فرس أنثى وديق ، فقربها منه فشمها الفحل ، فلما شمها قدمها ، فتقدم معها الحصان عليه فرعون   . فلما رأى جند فرعون  فرعون  قد دخل ، دخلوا معه وجبريل  أمامه ، وهم يتبعون فرعون ،  وميكائيل  على فرس من خلف القوم يسوقهم ، يقول : " الحقوا بصاحبكم " . حتى إذا فصل جبريل  من البحر ليس أمامه أحد ، ووقف ميكائيل  على ناحيته الأخرى ، وليس خلفه أحد ، طبق عليهم البحر ، ونادى فرعون   - حين رأى من سلطان الله عز وجل وقدرته ما رأى وعرف ذله ، وخذلته نفسه - : ( لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين   )  [ يونس : 90 ] .  [ ص: 53 ]  908 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال ، أخبرنا عبد الرزاق  قال ، أخبرنا معمر  ، عن  أبي إسحاق الهمداني  ، عن عمرو بن ميمون الأودي  في قوله : ( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون   ) ، قال : لما خرج موسى  ببني إسرائيل ، بلغ ذلك فرعون  فقال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك . قال : فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا : فدعا بشاة فذبحت ، ثم قال : لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط . فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط . ثم سار ، فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون   : أين أمرك ربك يا موسى  ؟ قال : أمامك . يشير إلى البحر . فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر ، فذهب به ، ثم رجع . فقال : أين أمرك ربك يا موسى  ؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت : ففعل ذلك ثلاث مرات . ثم أوحى الله جل ثناؤه إلى موسى   : ( أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم   ) [ الشعراء : 63 ] - يقول : مثل جبل - قال : ثم سار موسى  ومن معه وأتبعهم فرعون  في طريقهم ، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم . فلذلك قال : ( وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون   ) . قال معمر ،  قال قتادة   : كان مع موسى  ستمائة ألف ، وأتبعه فرعون  على ألف ألف ومائة ألف حصان  . 
909 - وحدثني  عبد الكريم بن الهيثم  قال ، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي  قال ، حدثنا سفيان  قال ، حدثنا أبو سعيد  ، عن عكرمة  ، عن ابن عباس  قال : أوحى الله جل وعز إلى موسى  أن أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون . قال : فسرى موسى  ببني إسرائيل ليلا فاتبعهم فرعون  في ألف ألف حصان سوى الإناث ، وكان موسى  في ستمائة ألف . فلما عاينهم فرعون  قال : ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون   ) [ الشعراء : 54 - 56 ] فسرى موسى  ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر ، فالتفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون ،  فقالوا : يا موسى ،   [ ص: 54 ] أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ! هذا البحر أمامنا ، وهذا فرعون  قد رهقنا بمن معه ! قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون . قال : فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى  أن اضرب بعصاك البحر ، وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى  وأطع إذا ضربك . قال : فبات البحر له أفكل - يعني : له رعدة - لا يدري من أي جوانبه يضربه . قال : فقال يوشع  لموسى   : بماذا أمرت ؟ قال : أمرت أن أضرب البحر . قال : فاضربه . قال : فضرب موسى  البحر بعصاه ، فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقا ، كل طريق كالطود العظيم ; فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه . فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض : ما لنا لا نرى أصحابنا ؟ قالوا لموسى   : أين أصحابنا لا نراهم ؟ قال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم . قالوا : لا نرضى حتى نراهم . 
قال سفيان  ، قال  عمار الدهني   : قال موسى   : اللهم أعني على أخلاقهم السيئة . قال : فأوحى الله إليه : أن قل بعصاك هكذا . وأومأ إبراهيم  بيده يديرها على البحر . قال موسى  بعصاه على الحيطان هكذا ، فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض  . 
قال سفيان   : قال أبو سعيد  ، عن عكرمة  ، عن ابن عباس   : فساروا حتى خرجوا من البحر . فلما جاز آخر قوم موسى  هجم فرعون  على البحر هو وأصحابه ، وكان فرعون  على فرس أدهم ذنوب حصان . فلما هجم على البحر ، هاب الحصان أن يقتحم في البحر ، فتمثل له جبريل  على فرس أنثى وديق ،  [ ص: 55 ] فلما رآها الحصان تقحم خلفها . وقيل لموسى   : اترك البحر رهوا - قال : طرقا على حاله - قال : ودخل فرعون  وقومه في البحر ، فلما دخل آخر قوم فرعون ،  وجاز آخر قوم موسى ،  أطبق البحر على فرعون  وقومه ، فأغرقوا  . 
910 - حدثنا موسى بن هارون  قال ، حدثنا عمرو بن حماد  قال ، حدثنا أسباط بن نصر  ، عن  السدي   : أن الله أمر موسى  أن يخرج ببني إسرائيل ، فقال : أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون . فخرج موسى  وهارون  في قومهما ، وألقي على القبط الموت ، فمات كل بكر رجل ، فأصبحوا يدفنونهم ، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس . فذلك حين يقول الله جل ثناؤه : ( فأتبعوهم مشرقين   ) [ الشعراء : 60 ] فكان موسى  على ساقة بني إسرائيل ، وكان هارون  أمامهم يقدمهم فقال المؤمن لموسى   : يا نبي الله ، أين أمرت ؟ قال : البحر . فأراد أن يقتحم ، فمنعه موسى ،  وخرج موسى  في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل ، لا يعدون ابن العشرين لصغره ، ولا ابن الستين لكبره ، وإنما عدوا ما بين ذلك ، سوى الذرية . وتبعهم فرعون  وعلى مقدمته هامان  في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ، ليس فيها ماذيانة - يعني الأنثى - وذلك حين يقول الله جل ثناؤه : ( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون   ) [ الشعراء : 53 - 54 ] يعني بني إسرائيل . فتقدم هارون  فضرب البحر ، فأبى البحر أن ينفتح ، وقال : من هذا الجبار الذي يضربني ؟ حتى أتاه موسى  فكناه " أبا خالد " وضربه فانفلق ،  [ ص: 56 ] فكان كل فرق كالطود العظيم - يقول : كالجبل العظيم - ، فدخلت بنو إسرائيل . وكان في البحر اثنا عشر طريقا ، في كل طريق سبط - وكانت الطرق انفلقت بجدران - فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا ! فلما رأى ذلك موسى  ، دعا الله ، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطيقان فنظر آخرهم إلى أولهم ، حتى خرجوا جميعا . ثم دنا فرعون  وأصحابه ، فلما نظر فرعون  إلى البحر منفلقا قال : ألا ترون البحر فرق مني ؟ قد انفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم ! فذلك حين يقول الله جل ثناؤه : ( وأزلفنا ثم الآخرين   ) [ الشعراء : 64 ] يقول : قربنا ثم الآخرين ، يعني آل فرعون   . فلما قام فرعون  على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم ، فنزل جبريل على ماذيانة ، فشامت الحصن ريح الماذيانة ، فاقتحم في أثرها ، حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم ، أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم  . 
911 - وحدثني  يونس بن عبد الأعلى  قال ، أخبرنا ابن وهب  قال ، قال ابن زيد   : لما أخذ عليهم فرعون  الأرض إلى البحر ، قال لهم فرعون   : قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين ! فلما رآهم أصحاب موسى  قالوا : إنا لمدركون ! قال كلا إن معي ربي سيهدين . فقال موسى  للبحر : ألست تعلم أني رسول الله ؟ قال : بلى . قال ! وتعلم أن هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم ؟ قال : بلى .  [ ص: 57 ] قال : أتعلم أن هذا عدو الله ؟ قال : بلى . قال : فافرق لي طريقا ولمن معي . قال : يا موسى  ، إنما أنا عبد مملوك ، ليس لي أمر إلا أن يأمرني الله تعالى . فأوحى الله عز وجل إلى البحر : إذا ضربك موسى  بعصاه فانفرق . وأوحى إلى موسى  أن يضرب البحر ، وقرأ قول الله تعالى : ( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى   ) [ سورة طه : 77 ] وقرأ قوله : ( واترك البحر رهوا   ) [ الدخان : 24 ] - سهلا ليس فيه نقر - فانفرق اثنتي عشرة فرقة ، فسلك كل سبط في طريق . قال : فقالوا لفرعون   : إنهم قد دخلوا البحر . قال : ادخلوا عليهم . قال : وجبريل  في آخر بني إسرائيل يقول لهم : ليلحق آخركم أولكم . وفي أول آل فرعون  يقول لهم : رويدا يلحق آخركم أولكم . فجعل كل سبط في البحر يقولون للسبط الذين دخلوا قبلهم : قد هلكوا ! فلما دخل ذلك قلوبهم أوحى الله جل وعز إلى البحر فجعل لهم قناطر ، ينظر هؤلاء إلى هؤلاء ، حتى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء  . 
ويعني بقوله : ( وأنتم تنظرون ) ، أي تنظرون إلى فرق الله لكم البحر ، وإهلاكه آل فرعون  في الموضع الذي نجاكم فيه ، وإلى عظيم سلطانه - في الذي أراكم من طاعة البحر إياه ، من مصيره ركاما فلقا كهيئة الأطواد الشامخة ، غير زائل عن حده ، انقيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته ، وهو سائل ذائب قبل ذلك . 
يوقفهم بذلك جل ذكره على موضع حججه عليهم ، ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم ، ويحذرهم - في تكذيبهم نبينا محمدا  صلى الله عليه وسلم - أن يحل  [ ص: 58 ] بهم ما حل بفرعون  وآله ، في تكذيبهم موسى  صلى الله عليه وسلم . 
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله : ( وأنتم تنظرون ) ، كمعنى قول القائل : " ضربت وأهلك ينظرون ، فما أتوك ولا أعانوك " بمعنى : وهم قريب بمرأى ومسمع ، وكقول الله تعالى : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل   ) [ الفرقان : 45 ] ، وليس هناك رؤية ، إنما هو علم . 
قال أبو جعفر   : والذي دعاه إلى هذا التأويل ، أنه وجه قوله : ( وأنتم تنظرون ) ، أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون ،  فقال : قد كانوا في شغل من أن ينظروا - مما اكتنفهم من البحر - إلى فرعون  وغرقه . وليس التأويل الذي تأوله تأويل الكلام ، إنما التأويل : وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم - على ما قد وصفنا آنفا - والتطام أمواج البحر بآل فرعون ،  في الموضع الذي صير لكم في البحر طريقا يبسا . وذلك كان ، لا شك نظر عيان لا نظر علم ، كما ظنه قائل القول الذي حكينا قوله . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					