القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 110 ) )
يقول تعالى ذكره : ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين ، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم ، من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم ، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ، ومما يعبدون من دون الله ، وصبروا على جهادهم ( إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) يقول : إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور ، يقول : لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم ، وهم لغيرها مضمرون ، وللإيمان معتقدون ، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إلى الله وتوبتهم .
وذكر عن بعض أهل التأويل أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تخلفوا بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فاشتد المشركون عليهم حتى فتنوهم عن دينهم ، فأيسوا من التوبة ، فأنزل الله فيهم هذه الآية : فهاجروا ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) قال : ناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض أصحاب [ ص: 307 ] النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش بالطريق ، ففتنوهم وكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية .
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد ، بنحوه .
قال : قال الله تعالى ذكره : ( ابن جريج من كفر بالله من بعد إيمانه ) ثم نسخ واستثنى ، فقال : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) ذكر لنا أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا ، كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة ; فلما جاءهم ذلك تبايعوا بينهم على أن يخرجوا ، فإن لحق بهم المشركون ، من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فخرجوا فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ، ومنهم من نجا ، فأنزل الله تعالى ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ) . . . الآية .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال ثنا محمد بن شريك ، عن ، عن عمرو بن دينار عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، وقتل بعض ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) . . . إلى آخر الآية ; قال : وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الآية لا عذر لهم ، قال : فخرجوا فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة ، فنزلت هذه الآية ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) . . . إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا وأيسوا من كل خير ، ثم نزلت فيهم ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) فكتبوا إليهم [ ص: 308 ] بذلك : إن الله قد جعل لكم مخرجا ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، ثم نجا من نجا ، وقتل من قتل .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ) .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في شأن ابن أبي سرح .
ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : ثنا عن يحيى بن واضح ، الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا في سورة النحل ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) ثم نسخ واستثنى من ذلك ، فقال ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأزله الشيطان ، فلحق بالكفار ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة ، فاستجار له أبو عمرو فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم .