الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 110 ) )

يقول تعالى ذكره : ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين ، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم ، من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم ، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ، ومما يعبدون من دون الله ، وصبروا على جهادهم ( إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) يقول : إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور ، يقول : لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم ، وهم لغيرها مضمرون ، وللإيمان معتقدون ، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إلى الله وتوبتهم .

وذكر عن بعض أهل التأويل أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تخلفوا بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فاشتد المشركون عليهم حتى فتنوهم عن دينهم ، فأيسوا من التوبة ، فأنزل الله فيهم هذه الآية : فهاجروا ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) قال : ناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض أصحاب [ ص: 307 ] النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش بالطريق ، ففتنوهم وكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية .

حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .

قال ابن جريج : قال الله تعالى ذكره : ( من كفر بالله من بعد إيمانه ) ثم نسخ واستثنى ، فقال : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) ذكر لنا أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا ، كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة ; فلما جاءهم ذلك تبايعوا بينهم على أن يخرجوا ، فإن لحق بهم المشركون ، من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فخرجوا فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ، ومنهم من نجا ، فأنزل الله تعالى ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ) . . . الآية .

حدثنا أحمد بن منصور ، قال ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال ثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، وقتل بعض ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) . . . إلى آخر الآية ; قال : وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الآية لا عذر لهم ، قال : فخرجوا فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة ، فنزلت هذه الآية ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) . . . إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا وأيسوا من كل خير ، ثم نزلت فيهم ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) فكتبوا إليهم [ ص: 308 ] بذلك : إن الله قد جعل لكم مخرجا ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، ثم نجا من نجا ، وقتل من قتل .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ) .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في شأن ابن أبي سرح .

ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا في سورة النحل ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) ثم نسخ واستثنى من ذلك ، فقال ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأزله الشيطان ، فلحق بالكفار ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة ، فاستجار له أبو عمرو فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية