[ ص: 367 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين    ( 95 ) ) 
قال أبو جعفر   : وهذا خبر من الله - جل ثناؤه - عن اليهود  وكراهتهم الموت ، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت ، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل ، والموت بهم حال; ولمعرفتهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنه رسول من الله ، إليهم مرسل ، وهم به مكذبون ، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر ، فهم يحذرون أن يتمنوا الموت ، خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب ، كالذي : - 
1578 - حدثني محمد بن حميد  قال : حدثنا سلمة  قال : حدثني محمد بن إسحاق  قال : حدثني محمد بن أبي محمد  فيما يروي أبو جعفر  ، عن سعيد بن جبير ،  أو عكرمة  ، عن ابن عباس   : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة   ) الآية ، أي : ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم   ) ، أي : لعلمهم بما عندهم من العلم بك ، والكفر بذلك  . 
1579 - حدثنا أبو كريب  قال : حدثنا عثمان بن سعيد  قال : حدثنا بشر بن عمارة  ، عن أبي روق  ، عن الضحاك ،  عن ابن عباس   : ( ولن يتمنوه أبدا ) ، يقول : يا محمد ،  ولن يتمنوه أبدا ؛ لأنهم يعلمون أنهم كاذبون ، ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي ، فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم  . 
1580 - حدثني القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني حجاج  ، عن  [ ص: 368 ]  ابن جريج  قوله : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين   ) ، وكانت اليهود  أشد فرارا من الموت ، ولم يكونوا ليتمنوه أبدا  . 
وأما قوله : ( بما قدمت أيديهم ) ، فإنه يعني به : بما أسلفته أيديهم . وإنما ذلك مثل ، على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها ، فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها ؛ فيعاقب عليها : "نالك هذا بما جنت يداك ، وبما كسبت يداك ، وبما قدمت يداك " ، فتضيف ذلك إلى "اليد " . ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة ، كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد . 
قال أبو جعفر   : وإنما قيل ذلك بإضافته إلى "اليد " ، لأن عظم جنايات الناس بأيديهم ، فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى "أيديهم " ، حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده ، إلى أنها عقوبة على ما جنته يده . 
فلذلك قاله - جل ثناؤه - للعرب : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم   ) ، يعني به : ولن يتمنى اليهود  الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله  ، في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد  صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ، ويعلمون أنه نبي مبعوث . فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم ، وأضمرته أنفسهم ، ونطقت به ألسنتهم - من حسد محمد  صلى الله عليه وسلم ، والبغي عليه ، وتكذيبه وجحود رسالته - إلى أيديهم ، وأنه مما قدمته أيديهم ، لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها؛ إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها . وروي عن ابن عباس  في ذلك ما : - 
1581 - حدثنا أبو كريب  قال : حدثنا عثمان بن سعيد  قال : حدثنا بشر بن عمارة  ، عن أبي روق  ، عن الضحاك  ، عن ابن عباس   : ( بما قدمت أيديهم ) ، يقول : بما أسلفت أيديهم . 
 [ ص: 369 ]  1582 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني حجاج  ، عن  ابن جريج   : ( بما قدمت أيديهم ) ، قال : إنهم عرفوا أن محمدا  صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه . 
وأما قوله : ( والله عليم بالظالمين   ) ، فإنه يعني جل ثناؤه : والله ذو علم بظلمة بني آدم   - يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها - وما يعملون . 
وظلم اليهود   : كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد  صلى الله عليه وسلم ، بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه ، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم . 
وقد دللنا على معنى "الظلم " فيما مضى بما أغنى عن إعادته . 
				
						
						
