القول في تأويل قوله تعالى : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين    ( 6 ) والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين   ( 7 ) ) 
يقول تعالى ذكره : ( والذين يرمون   ) من الرجال ( أزواجهم ) بالفاحشة ، فيقذفونهن بالزنا ، ( ولم يكن لهم شهداء   ) يشهدون لهم بصحة ما رموهن به من الفاحشة ، ( فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين   ) . 
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة   : " أربع شهادات " نصبا ، ولنصبهم ذلك وجهان : أحدهما : أن تكون الشهادة في قوله : ( فشهادة أحدهم   ) مرفوعة بمضمر قبلها ، وتكون " الأربع " منصوبا بمعنى الشهادة ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : فعلى أحدهم أن يشهد أربع شهادات بالله . والوجه الثاني : أن تكون الشهادة مرفوعة بقوله : ( إنه لمن الصادقين   ) و " الأربع " منصوبة بوقوع الشهادة عليها ، كما يقال : شهادتي ألف مرة إنك لرجل سوء ، وذلك أن العرب  ترفع الأيمان بأجوبتها ، فتقول : حلف صادق لأقومن ، وشهادة عمرو ليقعدن . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين   : ( أربع شهادات   ) برفع " الأربع " ، ويجعلونها للشهادة مرافعة ، وكأنهم وجهوا تأويل الكلام : فالذي يلزم من الشهادة ، أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . 
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ : " فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " بنصب أربع ، بوقوع " الشهادة " عليها ، و " الشهادة " مرفوعة حينئذ على ما وصفت من الوجهين قبل . وأحب وجهيهما إلي أن تكون به مرفوعة بالجواب ، وذلك قوله : ( إنه لمن الصادقين ) وذلك أن معنى الكلام : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين   )  [ ص: 110 ] تقوم مقام الشهداء الأربعة في دفع الحد عنه . فترك ذكر : تقوم مقام الشهداء الأربعة ، اكتفاء بمعرفة السامعين بما ذكر من الكلام ، فصار مرافع " الشهادة " ما وصفت . 
ويعني بقوله : ( فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله   ) : فحلف أحدهم أربع أيمان بالله ، من قول القائل : أشهد بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى زوجته به من الفاحشة . ( والخامسة ) يقول : والشهادة الخامسة ، ( أن لعنة الله عليه   ) يقول : إن لعنة الله له واجبة وعليه حالة ، إن كان فيما رماها به من الفاحشة من الكاذبين . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت به جماعة من أهل التأويل . 
ذكر الرواية بذلك ، وذكر السبب الذي فيه أنزلت هذه الآية : 
حدثني يعقوب بن إبراهيم ،  قال : ثنا  ابن علية ،  قال : ثنا أيوب ،  عن عكرمة ،  قال : لما نزلت ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة   ) قال سعد بن عبادة   : الله إن أنا رأيت لكاع متفخذها رجل فقلت بما رأيت إن في ظهري لثمانين إلى ما أجمع أربعة قد ذهب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الأنصار ،  ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم؟ " . قالوا : يا رسول الله لا تلمه ، وذكروا من غيرته ، فما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، ولا طلق امرأة قط فرجع فيها أحد منا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإن الله يأبى إلا ذاك " فقال : صدق الله ورسوله . قال : فلم يلبثوا أن جاء ابن عم له فرمى امرأته ، فشق ذلك على المسلمين ، فقال : لا والله ، لا يجعل في ظهري ثمانين أبدا ، لقد نظرت حتى أيقنت ، ولقد استسمعت حتى استشفيت ، قال : فأنزل الله القرآن باللعان ، فقيل له : احلف! فحلف ، قال : قفوه عند الخامسة ، فإنها موجبة ، فقال : لا يدخله الله النار بهذا أبدا ، كما درأ عنه جلد ثمانين ، لقد نظرت حتى أيقنت ، ولقد استسمعت حتى استشفيت فحلف ، ثم قيل : احلفي ، فحلفت ، ثم قال : قفوها عند الخامسة ، فإنها موجبة ، فقيل لها : إنها موجبة ، فتلكأت ساعة ، ثم قالت : لا أخزي قومي ، فحلفت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها ، وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه ما قيل ، قال : فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق ، فكان بعد أميرا بمصر لا يعرف نسبه ، أو لا يدرى من أبوه  " . 
 [ ص: 111 ] حدثنا خلاد بن أسلم ،  قال : أخبرنا النضر بن شميل ،  قال : أخبرنا عباد ،  قال : سمعت عكرمة ،  عن ابن عباس ،  قال : لما نزلت هذه الآية : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون   ) قال سعد بن عبادة   : لهكذا أنزلت يا رسول الله؟ لو أتيت لكاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الأنصار  أما تسمعون إلى ما يقول سيدكم؟ " قالوا : لا تلمه فإنه رجل غيور ، ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها ; قال سعد   : يا رسول الله ، بأبي وأمي ، والله إني لأعرف أنها من الله ، وأنها حق ، ولكن عجبت لو وجدت لكاع ، قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ، والله لا آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ، فوالله ما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية  من حديقة له فرأى بعينيه ، وسمع بأذنيه ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس مع أصحابه ، فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء ، فوجدت رجلا مع أهلي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه جدا ، حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال   : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم أني صادق ، وما قلت إلا حقا ، فإني لأرجو أن يجعل الله فرجا ، قال : واجتمعت الأنصار ،  فقالوا : ابتلينا بما قال سعد ،  أيجلد هلال بن أمية ،  وتبطل شهادته في المسلمين؟ فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربه ، فإنه لكذلك يريد أن يأمر بضربه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه ، إذ نزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ ، فأنزل الله : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم   ) . . إلى : ( أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين   ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبشر يا هلال ،  فإن الله قد جعل فرجا " فقال : قد كنت أرجو ذلك من الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسلوا إليها! " فجاءت ، فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لها ، فكذبت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب؟ " فقال هلال   :  [ ص: 112 ] يا رسول الله ، بأبي وأمي لقد صدقت ، وما قلت إلا حقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاعنوا بينهما! " قيل لهلال   : يا هلال  اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقيل له عند الخامسة : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس ، إنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال   : والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشهد الخامسة : ( أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين   ) ثم قيل لها : اشهدي ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فقيل لها عند الخامسة : اتقي الله ، فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فتلكأت ساعة ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة : ( أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين   ) ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقضى أن الولد لها ، ولا يدعى لأب ، ولا يرمى ولدها  . 
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ،  قال : ثنا أبو أحمد الحسين بن محمد ،  قال : ثنا جرير بن حازم ،  عن أيوب ،  عن عكرمة ،  عن ابن عباس ،  قال : " لما قذف هلال بن أمية  امرأته ، قيل له : والله ليجلدنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين جلدة ، قال : الله أعدل من ذلك أن يضربني ضربة وقد علم أني قد رأيت حتى استيقنت ، وسمعت حتى استثبت ، لا والله لا يضربني أبدا ، فنزلت آية الملاعنة ، فدعا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت الآية ، فقال : " الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب؟ فقال هلال   : والله إني لصادق . فقال له : " احلف بالله الذي لا إله إلا هو : إني لصادق " يقول ذلك أربع مرات فإن كنت كاذبا فعلي لعنة الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قفوه عند الخامسة ، فإنها موجبة " ، فحلف ، ثم قالت أربعا : والله الذي لا إله إلا هو إنه لمن الكاذبين ، فإن كان صادقا فعليها غضب الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قفوها عند الخامسة ، فإنها موجبة " ، فترددت وهمت بالاعتراف ، ثم قالت : لا أفضح قومي  . 
حدثنا أبو كريب   وأبو هشام الرفاعي ،  قالا ثنا عبدة ،  عن الأعمش ،  عن إبراهيم ،  عن علقمة ،  عن عبد الله ،  قال : كنا ليلة الجمعة في المسجد ، فدخل رجل فقال : لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله آية اللعان ، ثم جاء الرجل بعد ، فقذف امرأته ، فلاعن  [ ص: 113 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، فقال : " عسى أن تجيء به أسود جعدا ، فجاءت به أسود جعدا  " . 
حدثنا ابن وكيع ،  قال : ثنا جرير بن عبد الحميد ،  عن عبد الملك بن أبي سليمان ،  عن سعيد بن جبير  قال : سألت ابن عمر ،  فقلت : يا أبا عبد الرحمن ،  أيفرق بين المتلاعنين؟ فقال : نعم ، سبحان الله ، إن أول من سأل عن ذلك فلان ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله ، فقال : أرأيت لو أن أحدنا رأى صاحبته على فاحشة ، كيف يصنع؟ فلم يجبه في ذلك شيئا ، قال : فأتاه بعد ذلك فقال : إن الذي سألت عنه قد ابتليت به ، فأنزل الله هذه الآية في سورة النور ، فدعا الرجل فوعظه وذكره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، قال : والذي بعثك بالحق ، لقد رأيت وما كذبت عليها ، قال : ودعا المرأة فوعظها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقالت : والذي بعثك بالحق إنه لكاذب ، وما رأى شيئا ; قال : فبدأ الرجل ، فشهد أربع شهادات بالله : إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ; ثم إن المرأة شهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وفرق بينهما  . 
حدثنا  ابن المثنى ،  قال : ثنا ابن أبي عدي ،  عن داود ،  عن عامر ،  قال : لما أنزل : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة   ) قال عاصم بن عدي   : إن أنا رأيت فتكلمت جلدت ثمانين ، وإن أنا سكت سكت على الغيظ ، قال : فكأن ذلك شق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأنزلت هذه الآية : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم   ) قال : فما لبثوا إلا جمعة ، حتى كان بين رجل من قومه وبين امرأته ، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما  . 
حدثني علي ،  قال : ثنا عبد الله ،  قال : ثني معاوية ،  عن علي ،  عن ابن عباس ،  قوله : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم   ) . . الآية ، والخامسة : أن يقال له : إن عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين . وإن أقرت المرأة بقوله رجمت ، وإن أنكرت شهدت أربع شهادات بالله : إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن يقال لها : غضب الله عليك إن كان من الصادقين ، فيدرأ عنها العذاب ، ويفرق بينهما ، فلا يجتمعان أبدا ، ويلحق الولد بأمه  . 
 [ ص: 114 ] حدثنا القاسم ،  قال : ثنا الحسين ،  قال : ثني حجاج ،  عن  ابن جريج ،  عن عكرمة ،  قوله : ( والذين يرمون أزواجهم   ) قال : هلال بن أمية   : والذي رميت به شريك بن سحماء ،  والذي استفتى عاصم بن عدي   . 
قال : ثني حجاج ،  عن  ابن جريج ،  قال : أخبرني الزهري  عن الملاعنة والسنة فيها ، عن حديث سهل بن سعد  أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر من أمر المتلاعنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد قضى الله فيك وفي امرأتك ، فتلاعنا وأنا شاهد " ثم فارقها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت السنة بعدها أن يفرق بين المتلاعنين ، وكانت حاملا ، فأنكره ، فكان ابنها يدعى إلى أمه ، ثم جرت السنة أن ابنها يرثها ، وترث ما فرض الله لها  . 
حدثني محمد بن سعد ،  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ،  قوله : ( والذين يرمون أزواجهم   ) . . إلى قوله : ( إن كان من الكاذبين   ) قال : إذا شهد الرجل خمس شهادات ، فقد برئ كل واحد من الآخر ، وعدتها إن كانت حاملا أن تضع حملها ، ولا يجلد واحد منهما ، وإن لم تحلف أقيم عليها الحد والرجم  . 
				
						
						
