القول في تأويل قوله تعالى : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا    ( 20 ) ) 
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق   ) وجواب لهم عنه يقول لهم جل ثناؤه : وما أنكر يا محمد  هؤلاء القائلون : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، من أكلك الطعام ، ومشيك في الأسواق ، وأنت لله رسول ، فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، كالذي تأكل أنت وتمشي ، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة . 
فإن قال قائل : فإن ( من ) ليست في التلاوة ، فكيف قلت : معنى الكلام : إلا من إنهم ليأكلون الطعام؟ قيل : قلنا في ذلك : معناه : أن الهاء والميم في قوله : إنهم ، كناية أسماء لم تذكر ، ولا بد لها من أن تعود على من كني عنه بها ، وإنما ترك ذكر " من " وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله : ( من المرسلين ) عليه ، كما اكتفي في قوله : ( وما منا إلا له مقام معلوم   ) من إظهار " من " ، ولا شك أن معنى ذلك : وما منا إلا من له مقام معلوم ، كما قيل ( وإن منكم إلا واردها   ) ومعناه : وإن منكم إلا من هو واردها ، فقوله : ( إنهم ليأكلون الطعام   ) صلة لمن المتروك ، كما يقال في الكلام : ما أرسلت إليك من الناس إلا من إنه ليبلغك الرسالة ، فإنه ليبلغك الرسالة ، صلة لمن . 
وقوله : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة   ) يقول تعالى ذكره : وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، جعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملكا وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيرا وحرمناه الدنيا لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغني ، والملك بصبره على ما  [ ص: 253 ] أعطيه الرسول من الكرامة ، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطي ، وقسم له ، وطاعته ربه مع ما حرم مما أعطي غيره . يقول فمن أجل ذلك لم أعط محمدا  الدنيا ، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق ، ولأبتليكم أيها الناس ، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه ، بغير عرض من الدنيا ترجونه من محمد  أن يعطيكم على اتباعكم إياه ، لأني لو أعطيته الدنيا ، لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن ينال منها . 
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني يعقوب بن إبراهيم  ، قال : ثنا  ابن علية  ، عن أبي رجاء  ، قال : ثني عبد القدوس  ، عن الحسن  ، في قوله : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة   ) . . الآية ، يقول هذا الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، ويقول هذا الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان ، ويقول هذا السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان  . 
حدثنا القاسم  ، قال : ثنا الحسين  ، قال : ثني حجاج  ، عن  ابن جريج  ، في قوله : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون   ) قال : يمسك عن هذا ، ويوسع على هذا ، فيقول : لم يعطني مثل ما أعطى فلانا ، ويبتلي بالوجع كذلك ، فيقول : لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء ، ليعلم من يصبر ممن يجزع  . 
حدثنا ابن حميد  ، قال : ثنا سلمة ،  قال : ثني ابن إسحاق ،  قال : ثني محمد بن أبي محمد ،  فيما يرى الطبري  ، عن عكرمة  ، أو عن سعيد  ، عن ابن عباس  ، قال : وأنزل عليه في ذلك من قولهم : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق   ) . . الآية : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون   ) : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي ، فلا يخالفون لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم  . 
وقوله : ( وكان ربك بصيرا   ) يقول : وربك يا محمد  بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتحن به من المحن . 
كما حدثنا القاسم  ، قال : ثنا الحسين  ، قال : ثني حجاج  ، عن  ابن جريج   ( وكان ربك بصيرا   ) إن ربك لبصير بمن يجزع ، ومن يصبر  . 
				
						
						
