القول في تأويل قوله تعالى : ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا    ( 28 ) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما    ( 29 ) ) 
يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد    - صلى الله عليه وسلم - ( قل ) يا محمد ،    ( لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن    ) يقول : فإني أمتعكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهن بالطلاق بقوله ( ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين    ) وقوله ( وأسرحكن سراحا جميلا    ) يقول : وأطلقكن على ما أذن الله به ، وأدب به عباده بقوله ( إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن    ) ( وإن كنتن تردن الله ورسوله    ) يقول : وإن كنتن تردن رضا الله ورضا رسوله وطاعتهما فأطعنهما . ( فإن الله أعد للمحسنات منكن    ) وهن العاملات منهن بأمر الله وأمر رسوله ( أجرا عظيما ) . 
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أن عائشة  سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من عرض الدنيا ، إما زيادة في النفقة ، أو غير ذلك ، فاعتزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه شهرا ، فيما ذكر ، ثم أمره الله أن يخيرهن بين الصبر عليه ، والرضا بما قسم لهن ، والعمل بطاعة الله ، وبين أن يمتعهن ويفارقهن إن لم يرضين بالذي يقسم لهن . وقيل : كان سبب ذلك غيرة كانت عائشة  غارتها . 
ذكر الرواية بقول من قال : كان ذلك من أجل شيء من النفقة وغيرها . 
حدثني يعقوب بن إبراهيم  قال : ثنا  ابن علية ،  عن أيوب ،  عن أبي الزبير ،  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج صلوات ، فقالوا : ما شأنه ؟ فقال عمر    : إن شئتم لأعلمن لكم شأنه ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل يتكلم ويرفع صوته ، حتى أذن  [ ص: 252 ] له ، قال : فجعلت أقول في نفسي أي شيء أكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعله يضحك ، أو كلمة نحوها ، فقلت : يا رسول الله ، لو رأيت فلانة وسألتني النفقة فصككتها صكة ، فقال : ذلك حبسني عنكم . قال : فأتى حفصة ،  فقال : لا تسألي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ، ما كانت لك من حاجة فإلي ، ثم تتبع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل يكلمهن ، فقال  لعائشة    : أيغرك أنك امرأة حسناء ، وأن زوجك يحبك ؟ لتنتهين ، أو لينزلن فيك القرآن ، قال : فقالت أم سلمة    : يا ابن الخطاب ،  أو ما بقي لك إلا أن تدخل بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين نسائه ، ولن تسأل المرأة إلا لزوجها ؟ قال : ونزل القرآن ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها    ) إلى قوله ( أجرا عظيما ) قال : فبدأ بعائشة  فخيرها ، وقرأ عليها القرآن ، فقالت : هل بدأت بأحد من نسائك قبلي ؟ قال : " لا " . قالت : فإني أختار الله ورسوله ، والدار الآخرة ، ولا تخبرهن بذلك . قال : ثم تتبعهن . فجعل يخيرهن ويقرأ عليهن القرآن ، ويخبرهن بما صنعت عائشة ،  فتتابعن على ذلك . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة  قوله ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا    ) إلى قوله ( أجرا عظيما ) قال : قال الحسن  وقتادة    : خيرهن بين الدنيا والآخرة والجنة والنار ، في شيء كن أردنه من الدنيا ، وقال عكرمة :  في غيرة كانت غارتها عائشة ،  وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش    : عائشة ،   وحفصة ،   وأم حبيبة بنت أبي سفيان ،   وسودة بنت زمعة ،  وأم سلمة بنت أبي أمية ،  وكانت تحته صفية ابنة حيي الخيبرية ،   وميمونة بنت الحارث الهلالية ،   وزينب بنت جحش الأسدية ،  وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق ،  وبدأ بعائشة ،  فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، رئي الفرح في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتتابعن كلهن على ذلك ، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة . 
حدثنا ابن بشار  قال : ثنا عبد الأعلى  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة ،  عن الحسن ،  وهو قول قتادة ،  في قول الله ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها    ) إلى قوله ( عظيما ) قالا أمره الله أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة ، والجنة والنار . قال قتادة    : وهي غيرة من عائشة  في شيء أرادته من الدنيا ، وكان تحته تسع نسوة : عائشة ،   وحفصة ،   وأم حبيبة بنت أبي سفيان ،   وسودة بنت زمعة ،  وأم سلمة بنت أبي أمية ،   وزينب بنت جحش ،   [ ص: 253 ]  وميمونة بنت الحارث الهلالية ،  وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق ،   وصفية بنت حيي بن أخطب ،  فبدأ بعائشة ، وكانت  أحبهن إليه ، فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، رئي الفرح في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتتابعن على ذلك . 
حدثنا ابن بشار  قال : ثنا عبد الأعلى  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة ،  عن الحسن ،  وهو قول قتادة  قال : لما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك فقال ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن    ) فقصره الله عليهن ، وهن التسع اللاتي اخترن الله ورسوله . 
ذكر من قال : ذلك من أجل الغيرة : 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد ،  في قول الله : ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء    ) الآية ، قال : كان أزواجه قد تغايرن على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهجرهن شهرا ، نزل التخيير من الله له فيهن ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها    ) فقرأ حتى بلغ ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى    ) فخيرهن بين أن يخترن أن يخلي سبيلهن ويسرحهن ، وبين أن يقمن إن أردن الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين ، لا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ، لمن وهبت نفسها له ؛ حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ويرجي من يشاء حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل ، فلا جناح عليه ، ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين    ) إذا علمن أنه من قضائي عليهن ، إيثار بعضهن على بعض ، ( أدنى أن يرضين    ) قال : ( ومن ابتغيت ممن عزلت    ) من ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه ، فخيرهن ، بين أن يرضين بهذا ، أو يفارقهن ، فاخترن الله ورسوله ، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت ، وكان على ذلك وقد شرط له هذا الشرط ، ما زال يعدل بينهن حتى لقي الله . 
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي  قال : ثنا أبو عوانة ،  عن عمر بن أبي سلمة ،  عن أبيه ، قال : قالت عائشة    : لما نزل الخيار ، قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني أريد أن أذكر لك أمرا فلا تقضي فيه شيئا حتى تستأمري أبويك " . قالت : قلت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : فرده عليها . فقالت : ما هو يا رسول الله ؟ قال : فقرأ عليهن ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها    ) إلى آخر الآية ، قالت : قلت : بل نختار الله ورسوله ، قالت : ففرح بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - .  [ ص: 254 ] 
حدثنا ابن وكيع  قال : ثنا محمد بن بشر ،  عن محمد بن عمرو ،  عن أبي سلمة ،  عن عائشة ،  قالت : لما نزلت آية التخيير ، بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة ،  فقال : " يا عائشة ،  إني عارض عليك أمرا ، فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر  وأم رومان "  فقالت : يا رسول الله وما هو ؟ قال : " قال الله ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها    ) إلى ( عظيما ) فقلت : إني أريد الله ورسوله ، والدار الآخرة ، ولا أؤامر في ذلك أبوي أبا بكر  وأم رومان ،  فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم استقرأ الحجر فقال : " إن عائشة  قالت كذا " ، فقلن : ونحن نقول مثل ما قالت عائشة    . 
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي  قال : ثنا أبي ، عن ابن إسحاق ،  عن عبد الله بن أبي بكر ،  عن عمرة ،  عن عائشة ،  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لما نزل إلى نسائه أمر أن يخيرهن ، فدخل علي فقال : " سأذكر لك أمرا ولا تعجلي حتى تستشيري أباك " . فقلت : وما هو يا نبي الله ؟ قال : " إني أمرت أن أخيركن " . وتلا عليها آية التخيير ، إلى آخر الآيتين ، قالت : قلت : وما الذي تقول ؟ " لا تعجلي حتى تستشيري أباك ؟ " ، فإني أختار الله ورسوله ، فسر بذلك ، وعرض على نسائه ، فتتابعن كلهن ، فاخترن الله ورسوله . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : أخبرني موسى بن علي ،   ويونس بن يزيد ،  عن ابن شهاب  قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ،  أن عائشة  زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتخيير أزواجه بدأني ، فقال : " إني ذاكر لك أمرا ، فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك " قالت : قد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه . قالت : ثم تلا هذه الآية ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا    ) قالت : فقلت : ففي أي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله ، والدار الآخرة . قالت عائشة    : ثم فعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما فعلت ، فلم يكن ذلك حين قاله لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنه طلاقا ؛ من أجل أنهن اخترنه . 
				
						
						
