يقول - تعالى ذكره - : وقال فرعون لما وعظه المؤمن من آله بما وعظه به وزجره عن قتل موسى نبي الله وحذره من بأس الله على قيله أقتله ما حذره لوزيره وزير السوء هامان : ( يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب ) يعني بناء . [ ص: 386 ] وقد بينا معنى الصرح فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
( لعلي أبلغ الأسباب ) اختلف أهل التأويل في معنى الأسباب في هذا الموضع ، فقال بعضهم : أسباب السموات : طرقها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن هشام قال : ثنا عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن ، عن السدي أبي صالح ( أسباب السماوات ) قال : طرق السموات .
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي أبلغ الأسباب أسباب السماوات ) قال : طرق السموات .
وقال آخرون : عنى بأسباب السموات : أبواب السموات .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا ) وكان أول من بنى بهذا الآجر وطبخه ( لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات ) : أي أبواب السموات .
وقال آخرون : بل عنى به منزل السماء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات ) قال : منزل السماء .
وقد بينا فيما مضى قبل ، أن السبب : هو كل ما تسبب به إلى الوصول إلى ما يطلب من حبل وسلم وطريق وغير ذلك .
فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : معناه لعلي أبلغ من أسباب السموات أسبابا أتسبب بها إلى رؤية إله موسى ، طرقا كانت تلك الأسباب منها ، [ ص: 387 ] أو أبوابا ، أو منازل ، أو غير ذلك .
وقوله : ( فأطلع إلى إله موسى ) اختلف القراء في قراءة قوله : ( فأطلع ) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار : " فأطلع " بضم العين : ردا على قوله : ( أبلغ الأسباب ) وعطفا به عليه . وذكر عن حميد الأعرج أنه قرأ ( فأطلع ) نصبا جوابا للعلي ، وقد ذكر الفراء أن بعض العرب أنشده :
عل صروف الدهر أو دولاتها يدلننا اللمة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها
فنصب فتستريح على أنها جواب للعل
والقراءة التي لا أستجيز غيرها الرفع في ذلك ، لإجماع الحجة من القراء عليه .
وقوله : ( وإني لأظنه كاذبا ) يقول : وإني لأظن موسى كاذبا فيما يقول ويدعي من أن له في السماء ربا أرسله إلينا .
وقوله : ( وكذلك زين لفرعون سوء عمله ) يقول الله - تعالى ذكره - : وهكذا [ ص: 388 ] زين الله لفرعون حين عتا عليه وتمرد ، قبيح عمله ، حتى سولت له نفسه بلوغ أسباب السموات ، ليطلع إلى إله موسى .
وقوله : ( وصد عن السبيل ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والكوفة : ( وصد عن السبيل ) بضم الصاد ، على وجه ما لم يسم فاعله .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وصد عن السبيل ) قال : فعل ذلك به ، زين له سوء عمله ، وصد عن السبيل .
وقرأ ذلك حميد وأبو عمرو وعامة قراء البصرة " وصد " بفتح الصاد ، بمعنى : وأعرض فرعون عن سبيل الله التي ابتعث بها موسى استكبارا .
والصواب من القول فى ذلك أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وقوله : ( وما كيد فرعون إلا في تباب ) يقول - تعالى ذكره - : وما احتيال فرعون الذي يحتال للاطلاع إلى إله موسى ، إلا في خسار وذهاب مال وغبن ، لأنه ذهبت نفقته التي أنفقها على الصرح باطلا ولم ينل بما أنفق شيئا مما أراده ، فذلك هو الخسار والتباب .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( وما كيد فرعون إلا في تباب ) يقول : في خسران .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( في تباب ) قال : خسار . [ ص: 389 ]
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وما كيد فرعون إلا في تباب ) : أي في ضلال وخسار .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وما كيد فرعون إلا في تباب ) قال : التباب والضلال واحد .