القول في تأويل قوله تعالى ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة    ) 
قال أبو جعفر   : يعني بذلك جل ثناؤه : هل ينظر المكذبون بمحمد  صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ؟ . 
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : " والملائكة" .  [ ص: 261 ] 
فقرأ بعضهم : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة   " ، بالرفع ، عطفا ب "الملائكة" على اسم الله تبارك وتعالى ، على معنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام . 
ذكر من قال ذلك : 
4032 - حدثني أحمد بن يوسف  عن  أبي عبيد القاسم بن سلام ،  قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي ،  عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ،  عن أبي العالية  قال - في قراءة أبي بن كعب   : "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام" ، قال : تأتي الملائكة في ظلل من الغمام ، ويأتي الله عز وجل فيما شاء  . 
4033 - وقد حدثت هذا الحديث عن عمار بن الحسن ،  عن عبد الله بن أبي جعفر ،  عن أبيه ، عن الربيع  قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة   " الآية ، وقال أبو جعفر الرازي   : وهي في بعض القراءة : "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام" ، كقوله : ( ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا   ) [ الفرقان : 25 ] 
وقرأ ذلك آخرون : "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" بالخفض عطفا ب "الملائكة" على"الظلل" ، بمعنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة . 
وكذلك اختلفت القرأة في قراءة" ظلل " ، فقرأها بعضهم : " في ظلل " ، وبعضهم : "في ظلال" . 
فمن قرأها" في ظلل " ، فإنه وجهها إلى أنها جمع"ظلة" ، و"الظلة" ، تجمع " ظلل وظلال" ، كما تجمع"الخلة" ، "خلل وخلال" ، و"الجلة" ، جلل وجلال" .  [ ص: 262 ] 
وأما الذي قرأها"في ظلال" ، فإنه جعلها جمع "ظلة" ، كما ذكرنا من جمعهم "الخلة" "خلال" . 
وقد يحتمل أن يكون قارئه كذلك ، وجهه إلى أن ذلك جمع "ظل" ؛ لأن "الظلة" و"الظل" قد يجمعان جميعا"ظلالا" . 
قال أبو جعفر   : والصواب من القراءة في ذلك عندي : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام   " ، لخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفا  . فدل بقوله : "طاقات" ، على أنها ظلل لا ظلال ؛ لأن واحد "الظلل" "ظلة" ، وهي الطاق واتباعا لخط المصحف . وكذلك الواجب في كل ما اتفقت معانيه واختلفت في قراءته القرأة ، ولم يكن على إحدى القراءتين دلالة تنفصل بها من الأخرى غير اختلاف خط المصحف ، فالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما وافق رسم المصحف . 
وأما الذي هو أولى القراءتين في : " والملائكة" ، فالصواب بالرفع ، عطفا بها على اسم الله تبارك وتعالى ، على معنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وإلا أن تأتيهم الملائكة ، على ما روي عن أبي بن كعب ؛  لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في غير موضع من كتابه أن الملائكة تأتيهم ، فقال جل ثناؤه : ( وجاء ربك والملك صفا صفا   ) [ الفجر : 22 ] ، وقال : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك   ) [ الأنعام : 158 ] فإن أشكل على امرئ قول الله جل ثناؤه : ( والملك صفا صفا ) فظن أنه مخالف معناه معنى قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة   " ،  [ ص: 263 ] إذ كان قوله : " والملائكة " في هذه الآية بلفظ جمع ، وفي الأخرى بلفظ الواحد . فإن ذلك خطأ من الظن ، وذلك أن"الملك" في قوله : ( وجاء ربك والملك   ) بمعنى الجميع ، ومعنى " الملائكة " . والعرب تذكر الواحد بمعنى الجميع ، فتقول : "فلان كثير الدرهم والدينار" يراد به : الدراهم والدنانير و"هلك البعير والشاة" ، بمعنى جماعة الإبل والشاء ، فكذلك قوله : " والملك" بمعنى"الملائكة" . 
قال أبو جعفر   : ثم اختلف أهل التأويل في قوله : " ظلل من الغمام   " ، وهل هو من صلة فعل الله جل ثناؤه ، أو من صلة فعل" الملائكة " ، ومن الذي يأتي فيها ؟ فقال بعضهم : هو من صلة فعل الله ، ومعناه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وأن تأتيهم الملائكة . 
ذكر من قال ذلك : 
4034 - حدثني محمد بن عمرو ،  قال : حدثنا أبو عاصم ،  عن عيسى ،  عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد  في قول الله عز وجل : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام   " ، قال : هو غير السحاب لم يكن إلا لبني إسرائيل  في تيههم حين تاهوا ، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة  . 
4035 - حدثنا الحسن بن يحيى ،  قال : أخبرنا عبد الرزاق ،  قال : أخبرنا معمر ،  عن قتادة   : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام   " ، قال : يأتيهم الله وتأتيهم الملائكة عند الموت  . 
4036 - حدثنا القاسم ،  قال : حدثنا الحسين ،  قال : حدثني حجاج ،  عن  ابن جريج ،  قال : قال عكرمة  في قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام   " ، قال : طاقات من الغمام ، والملائكة حوله قال  ابن جريج ،  وقال غيره : والملائكة بالموت  [ ص: 264 ] 
وقول عكرمة  هذا ، وإن كان موافقا قول من قال : إن قوله : في ظلل من الغمام   " من صلة فعل الرب تبارك وتعالى الذي قد تقدم ذكرناه ، فإنه له مخالف في صفة الملائكة . وذلك أن الواجب من القراءة على تأويل قول عكرمة  هذا في" الملائكة " الخفض ؛ لأنه تأول الآية : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة ؛ لأنه زعم أن الله تعالى يأتي في ظلل من الغمام والملائكة حوله . 
هذا إن كان وجه قوله : "والملائكة حوله" ، إلى أنهم حول الغمام ، وجعل"الهاء" في"حوله" من ذكر" الغمام " . وإن كان وجه قوله : "والملائكة حوله" إلى أنهم حول الرب تبارك وتعالى ، وجعل"الهاء" في"حوله" من ذكر الرب عز جل ، فقوله نظير قول الآخرين الذين قد ذكرنا قولهم ، غير مخالفهم في ذلك . 
وقال آخرون : بل قوله : " في ظلل من الغمام   " من صلة فعل"الملائكة" ، وإنما تأتي الملائكة فيها ، وأما الرب تعالى ذكره فإنه يأتي فيما شاء . 
ذكر من قال ذلك : 
4037 - حدثت عن عمار بن الحسن ،  قال : حدثنا ابن أبي جعفر ،  عن أبيه ، عن الربيع  في قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة   " الآية ، قال : ذلك يوم القيامة ، تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام . قال : الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام ، والرب تعالى يجيء فيما شاء  . 
قال أبو جعفر   : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من وجه قوله : " في ظلل من الغمام   " إلى أنه من صلة فعل الرب عز وجل ، وأن معناه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وتأتيهم الملائكة ، لما : - 
4038 - حدثنا به محمد بن حميد ،  قال : حدثنا إبراهيم بن المختار ،  عن  ابن جريج ،  عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام ،  عن عكرمة ،  عن ابن عباس   : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفا ، وذلك  [ ص: 265 ] قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر   " . 
وأما معنى قوله : " هل ينظرون " ، فإنه ما ينظرون ، وقد بينا ذلك بعلله فيما مضى من كتابنا هذا قبل . 
ثم اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله    " . 
فقال بعضهم : لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنزول ، وغير جائز تكلف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله ، أو من رسول مرسل . فأما القول في صفات الله وأسمائه ، فغير جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما ذكرنا . 
وقال آخرون : إتيانه عز وجل ، نظير ما يعرف من مجيء الجائي من موضع إلى موضع ، وانتقاله من مكان إلى مكان . 
وقال آخرون : معنى قوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله   " ، يعني به : هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله ، كما يقال : "قد خشينا أن يأتينا بنو أمية   " ، يراد به : حكمهم .  [ ص: 266 ] 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : هل ينظرون إلا أن يأتيهم ثوابه وحسابه وعذابه ، كما قال عز وجل : ( بل مكر الليل والنهار   ) [ سبأ : 33 ] وكما يقال : "قطع الوالي اللص أو ضربه" ، وإنما قطعه أعوانه . 
وقد بينا معنى"الغمام" فيما مضى من كتابنا هذا قبل فأغنى ذلك عن تكريره ؛ لأن معناه ههنا هو معناه هنالك . 
قال أبو جعفر   : فمعنى الكلام إذا : هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة والمتبعون خطوات الشيطان ، إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، فيقضي في أمرهم ما هو قاض . 
4939 - حدثنا أبو كريب ،  قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ،  عن إسماعيل بن رافع المديني ،  عن  يزيد بن أبي زياد ،  عن رجل من الأنصار ،  عن  محمد بن كعب القرظي ،  عن  أبي هريرة ،  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : توقفون موقفا واحدا يوم القيامة مقدار سبعين عاما ، لا ينظر إليكم ولا يقضي بينكم ، قد حصر عليكم ، فتبكون حتى ينقطع الدمع ، ثم تدمعون دما ، وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان ، أو يلجمكم فتصيحون ، ثم تقولون : من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا ؟ فيقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم  ؟ جبل الله تربته ، وخلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وكلمه قبلا فيؤتى آدم ،  فيطلب ذلك إليه ، فيأبى ، ثم يستقرئون الأنبياء نبيا نبيا ، كلما جاءوا نبيا أبى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حتى يأتوني ، فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفحص قال  أبو هريرة   : يا رسول الله ، وما الفحص ؟ قال : قدام العرش فأخر ساجدا ، فلا أزال ساجدا  [ ص: 267 ] حتى يبعث الله إلي ملكا ، فيأخذ بعضدي فيرفعني ، ثم يقول الله لي : يا محمد   ! فأقول : نعم! وهو أعلم . فيقول : ما شأنك ؟ فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة ، فشفعني في خلقك ، فاقض بينهم . فيقول : قد شفعتك ، أنا آتيكم فأقضي بينكم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأنصرف حتى أقف مع الناس ، فبينا نحن وقوف سمعنا حسا من السماء شديدا ، فهالنا ، فنزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا! وهو آت . ثم نزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة ، وبمثلي من فيها من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا! وهو آت . ثم نزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة ، وبمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا ! وهو آت ، ثم نزل أهل السموات على عدد ذلك من التضعيف ، حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة ، ولهم زجل من تسبيحهم يقولون : " سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان رب العرش ذي الجبروت! سبحان الحي الذي لا يموت! سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت! سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح! قدوس قدوس! سبحان ربنا الأعلى! سبحان ذي السلطان والعظمة! سبحانه أبدا أبدا"! فينزل تبارك وتعالى ، يحمل عرشه يومئذ ثمانية ، وهم اليوم أربعا ، أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والسموات إلى حجزهم ، والعرش على مناكبهم . فوضع الله عز وجل عرشه حيث شاء من الأرض ، ثم ينادي مناد نداء يسمع الخلائق ، فيقول : يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا ، أسمع كلامكم ، وأبصر أعمالكم ، فأنصتوا إلى ، فإنما هو صحفكم وأعمالكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه! فيقضي الله عز وجل بين خلقه الجن والإنس والبهائم ، فإنه  [ ص: 268 ] ليقتص يومئذ للجماء من ذات القرن  " . 
قال أبو جعفر   : وهذا الخبر يدل على خطأ قول قتادة  في تأويله قوله : " والملائكة " أنه يعني به الملائكة تأتيهم عند الموت ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنهم يأتونهم بعد قيام الساعة في موقف الحساب ، حين تشقق السماء ، وبمثل ذلك روي الخبر  [ ص: 269 ] عن جماعة من الصحابة والتابعين ، كرهنا إطالة الكتاب بذكرهم وذكر ما قالوا في ذلك ، ويوضح أيضا صحة ما اخترنا في قراءة قوله : " والملائكة " بالرفع على معنى : وتأتيهم الملائكة ويبين عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بالخفض ؛ لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تأتي أهل القيامة في موقفهم حين تفطر السماء ، قبل أن يأتيهم ربهم ، في ظلل من الغمام . إلا أن يكون قارئ ذلك ذهب إلى أنه عز وجل عنى بقوله ذلك : إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وفي الملائكة الذين يأتون أهل الموقف حين يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، فيكون ذلك وجها من التأويل ، وإن كان بعيدا من قول أهل العلم ، ودلالة الكتاب وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					