قال أبو جعفر : يعني بذلك عز ذكره : والإثم بشرب [ الخمر ] هذه والقمار هذا أعظم وأكبر مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما . وإنما كان ذلك كذلك ، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض ، وقاتل بعضهم بعضا ، وإذا ياسروا وقع بينهم فيه بسببه الشر ، فأداهم ذلك إلى ما يأثمون به .
ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يصرح بتحريمها ، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما ، وإنما الإثم بأسبابهما ؛ إذ كان عن سببهما يحدث .
وقد قال عدد من أهل التأويل : معنى ذلك : وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما .
ذكر من قال ذلك :
4138 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس : " وإثمهما أكبر من نفعهما " ، قال : منافعهما قبل التحريم ، وإثمهما بعد ما حرما .
4139 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن " [ ص: 330 ] الربيع : ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ينزل المنافع قبل التحريم ، والإثم بعد ما حرم .
4140 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرني عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإثمهما أكبر من نفعهما " ، يقول : إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم .
4141 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : " وإثمهما أكبر من نفعهما " ، يقول : ما يذهب من الدين والإثم فيه أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها .
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر فكان معلوما بذلك أن الإثم الذي ذكره الله في هذه الآية فأضافه إليهما ، إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما - على ما وصفنا - لا الإثم بعد التحريم .
ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر :
4142 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا قيس عن سالم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثم كبير ومنافع للناس " فكرهها قوم لقوله : " فيهما إثم كبير " ، وشربها قوم لقوله : " ومنافع للناس " ، حتى نزلت : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) [ سورة النساء : 43 ] ، قال : فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة ، حتى نزلت : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) [ سورة المائدة : 90 ] فقال عمر : ضيعة لك ! اليوم قرنت بالميسر ! [ ص: 331 ]
4143 - حدثني محمد بن معمر قال : حدثنا أبو عامر قال : حدثنا محمد بن أبي حميد عن أبي توبة المصري قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثا ، فكان أول ما أنزل : " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير " الآية ، فقالوا : يا رسول الله ، ننتفع بها ونشربها كما قال الله جل وعز في كتابه ! ثم نزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) الآية ، قالوا : يا رسول الله ، لا نشربها عند قرب الصلاة . قال : ثم نزلت : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) الآية ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت الخمر " . [ ص: 332 ]
4144 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا قال : حدثنا يحيى بن واضح الحسين عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن قالا قال الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) و" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ، فنسختها الآية التي في المائدة ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ) ، الآية .
4145 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا عوف عن أبي القموص زيد بن علي قال : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاث مرات . فأول ما أنزل قال الله : " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ، قال : فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك ، حتى شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو ، فأنزل الله عز وجل فيهما : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) ، فشربها من شربها منهم ، وجعلوا يتقونها عند الصلاة ، حتى شربها - فيما زعم أبو القموص رجل ، فجعل ينوح على قتلى بدر :
تحيي بالسلامة أم عمرو وهل لك بعد رهطك من سلام [ ص: 333 ] ذريني أصطبح بكرا ، فإني
رأيت الموت نقب عن هشام وود بنو المغيرة لو فدوه
بألف من رجال أو سوام كأي بالطوي طوي بدر
من الشيزى يكلل بالسنام كأي بالطوي طوي بدر
من الفتيان والحلل الكرام
4146 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا إسحاق الأزرق عن زكريا عن سماك عن الشعبي قال : نزلت في الخمر أربع آيات : " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " ، فتركوها ، ثم نزلت : ( تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) [ سورة النحل : 67 ] ، فشربوها ثم نزلت الآيتان في " المائدة " : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ) إلى قوله : ( فهل أنتم منتهون )
4147 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن : قال نزلت هذه الآية : " السدي يسألونك عن الخمر والميسر " الآية ، فلم يزالوا بذلك يشربونها ، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب ، فقرأ : ( قل يا أيها الكافرون ) ، ولم يفهمها . فأنزل الله عز وجل يشدد في الخمر : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) ، فكانت لهم حلالا يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار ، أو ينتصف ، فيقومون إلى صلاة الظهر وهم مصحون ، ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة - وهي [ ص: 335 ] العشاء - ثم يشربونها حتى ينتصف الليل ، وينامون ، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا - فلم يزالوا بذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار ، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه ، فلما أكلوا وشربوا من الخمر ، سكروا وأخذوا في الحديث . فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري ، فرفع لحي البعير فكسر أنف سعد ، فأنزل الله نسخ الخمر وتحريمها وقال : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ) إلى قوله : ( فهل أنتم منتهون )
4148 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة - وعن رجل عن مجاهد - في قوله : " يسألونك عن الخمر والميسر " ، قال : لما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعض ، حتى نزل تحريمها في " سورة المائدة " .
4149 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " قل فيهما إثم كبير " ، قال : هذا أول ما عيبت به الخمر .
4150 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع سعيد عن قتادة قوله : " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " ، فذمهما الله ولم يحرمهما ، لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل . ثم أنزل الله في " سورة النساء " أشد منها : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) ، فكانوا يشربونها ، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها ، فكان السكر عليهم [ ص: 336 ] حراما . ثم أنزل الله جل وعز في " سورة المائدة " بعد غزوة الأحزاب : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ) إلى ( لعلكم تفلحون ) فجاء تحريمها في هذه الآية ، قليلها وكثيرها ، ما أسكر منها وما لم يسكر . وليس للعرب يومئذ عيش أعجب إليهم منها .
4151 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قوله : " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " ، قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ربكم يقدم في تحريم الخمر ، قال : ثم نزلت : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن ربكم يقدم في تحريم الخمر . قال : ثم نزلت : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) ، فحرمت الخمر عند ذلك .
4152 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يسألونك عن الخمر والميسر " الآية كلها ، قال : نسخت ثلاثة ، في " سورة المائدة " ، وبالحد الذي حد النبي صلى الله عليه وسلم ، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم . قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدا ، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه ، ولم يكن حدا مسمى وهو حد وقرأ : ( إنما الخمر والميسر ) الآية .
[ ص: 337 ]