القول في تأويل قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا    ) 
قال أبو جعفر   : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا   ) . 
فقال بعضهم : يعني بذلك : على كل ربع من أرباع الدنيا جزءا منهن . 
ذكر من قال ذلك : 
6013 - حدثني المثنى  قال : حدثنا محمد بن جعفر  قال : حدثنا شعبة ،  عن  أبي جمرة  ، عن ابن عباس   : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا   ) قال : اجعلهن في أرباع الدنيا : ربعا ههنا ، وربعا ههنا ، وربعا ههنا ، وربعا ههنا ، ( ثم ادعهن يأتينك سعيا   )  .  [ ص: 506 ] 
6014 - حدثني محمد بن سعد  قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس   : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا   ) قال : لما أوثقهن ذبحهن ، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا  . 
6015 - حدثنا بشر  قال : حدثنا يزيد  قال : حدثنا سعيد ،  عن قتادة   : قال : أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن ، ثم يجزئهن على أربعة أجبل ، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن ، وأمسك برءوسهن بيده ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم   - صلى الله عليه وسلم - . ثم دعاهن فأتينه سعيا على أرجلهن ، ويلقي إلى كل طير برأسه . وهذا مثل آتاه الله إبراهيم ،  يقول : كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها  . 
6016 - حدثت عن عمار  قال : حدثنا ابن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن الربيع  قال : ذبحهن ، ثم قطعهن ، ثم خلط بين لحومهن وريشهن ، ثم قسمهن على أربعة أجزاء ، فجعل على كل جبل منهن جزءا ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم   . ثم دعاهن فأتينه سعيا ، يقول : شدا على أرجلهن . وهذا مثل أراه الله إبراهيم  ، يقول : كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة ، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها  . 
6017 - حدثنا ابن حميد  قال : حدثنا سلمة  قال : حدثنا ابن إسحاق  ، عن بعض أهل العلم : أن أهل الكتاب  يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة ، ثم قطع  [ ص: 507 ] كل طير بأربعة أجزاء ، ثم عمد إلى أربعة أجبال ، فجعل على كل جبل ربعا من كل طائر ، فكان على كل جبل ربع من الطاووس ، وربع من الديك ، وربع من الغراب وربع من الحمام . ثم دعاهن فقال : " تعالين بإذن الله كما كنتن " فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن ، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه . ثم أقبلن إليه سعيا ، كما قال الله . وقيل : يا إبراهيم  هكذا يجمع الله العباد ، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها ، وشامها ويمنها . فأراه الله إحياء الموتى بقدرته ، حتى عرف ذلك - يعني ما قال نمروذ من الكذب والباطل -  . 
6018 - حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد   : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا   ) قال : فأخذ طاووسا ، وحمامة ، وغرابا ، وديكا ، ثم قال : فرقهن ، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه . فقطعهن وفرقهن أرباعا على الجبال ، ثم دعاهن فجئنه جميعا ، فقال الله : كما ناديتهن فجئنك ، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعد هذا ، فكذلك أجمع هؤلاء - أيضا يعني - الموتى . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم  ميتة ، فسأل إبراهيم  عند رؤيته إياها أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها . وقالوا : كانت سبعة أجبال  . 
ذكر من قال ذلك : 
6019 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني حجاج  ، عن  ابن جريج  قال : لما قال إبراهيم  ما قال - عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطير  [ ص: 508 ] والسباع عنها حين دنا منها ، وسأل ربه ما سأل - قال : ( فخذ أربعة من الطير   ) - قال  ابن جريج   : فذبحها - ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا حيث رأيت الطير ذهبت والسباع . قال : فجعلهن سبعة أجزاء ، وأمسك رءوسهن عنده ، ثم دعاهن بإذن الله ، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى ، وكل بضعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رءوس الجبال ، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضا في السماء ، ثم أقبلن يسعين ، حتى وصلت رأسها  . 
6020 - حدثني موسى  قال : حدثنا عمرو  قال : حدثنا أسباط ،  عن  السدي  قال : ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك   ) ، ثم اجعل على سبعة أجبال ، فاجعل على كل جبل منهن جزءا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ! فأخذ إبراهيم  أربعة من الطير ، فقطعهن أعضاء ، لم يجعل عضوا من طير مع صاحبه . ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا ، وصدر هذا مع جناح هذا ، وقسمهن على سبعة أجبال ، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه ، ثم أقبلن إليه جميعا  . 
وقال آخرون : بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل . 
ذكر من قال ذلك : 
6021 - حدثني محمد بن عمرو  قال : حدثنا أبو عاصم ،  عن عيسى ،  عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد   : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا   ) ، قال : ثم بددهن على كل جبل يأتينك سعيا ، وكذلك يحيي الله الموتى  . 
6022 - حدثني المثنى  قال : حدثنا أبو حذيفة  قال : حدثنا شبل  عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد   : ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، كذلك يحيي الله الموتى . هو مثل ضربه الله لإبراهيم   .  [ ص: 509 ] 
6023 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثنا حجاج  قال : قال  ابن جريج ،  قال مجاهد   : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا   ) ثم بددهن أجزاء على كل جبل ثم ( ادعهن ) تعالين بإذن الله . فكذلك يحيي الله الموتى . مثل ضربه اللهلإبراهيم   - صلى الله عليه وسلم -  . 
6024 - حدثني المثنى  قال : حدثني إسحاق  قال : حدثنا أبو زهير ،  عن جويبر ،  عن الضحاك  قال : أمره أن يخالف بين قوائمهن ورءوسهن وأجنحتهن ، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءا . 
6025 - حدثت عن الحسين بن الفرج  قال : سمعت أبا معاذ  قال : أخبرنا عبيد  قال : سمعت الضحاك  يقول في قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا   ) ، فخالف إبراهيم  بين قوائمهن وأجنحتهن  . 
قال أبو جعفر   : وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد ،  وهو أن الله - تعالى ذكره - أمر إبراهيم  بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم  في وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك وتبديدها عليها أجزاء ؛ لأن الله - تعالى ذكره - قال له : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا   ) " والكل " حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه ، لفظه واحد ومعناه الجمع . 
فإذا كان ذلك كذلك ، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيم  بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة عليها خارجة من أحد معنيين : إما أن تكون بعضا ، أو جميعا . 
فإن كانت " بعضا " فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم   [ ص: 510 ] السبيل إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه . 
أو يكون " جميعا " فيكون أيضا كذلك . 
وقد أخبر الله - تعالى ذكره - أنه أمره بأن يجعل ذلك على " كل جبل " وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم  بأعيانهن ، وإما ما في الأرض من الجبال . 
فأما قول من قال : " إن ذلك أربعة أجبل " وقول من قال : " هن سبعة " فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به ، وإنما أمر الله إبراهيم   - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل ؛ ليرى إبراهيم  قدرته على جمع أجزائهن وهن متفرقات متبددات في أماكن مختلفة شتى ، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض ، فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال أطيارا أحياء يطرن فيطمئن قلب إبراهيم ،  ويعلم أن كذلك جمع الله أوصال الموتى لبعث القيامة ، وتأليفه أجزاءهم بعد البلى ورد كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردى . 
قال أبو جعفر   : " والجزء " من كل شيء هو البعض منه ، كان منقسما جميعه عليه على صحة أو غير منقسم . فهو بذلك من معناه مخالف معنى " السهم " ؛ لأن " السهم " من الشيء هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة . ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءهم من المواريث : " السهام " دون " الأجزاء " .  [ ص: 511 ] 
وأما قوله : ( ثم ادعهن ) فإن معناه ما ذكرت آنفا عن مجاهد  أنه قال : هو أنه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل : " تعالين بإذن الله " . 
فإن قال قائل : أمر إبراهيم  أن يدعوهن وهن ممزقات أجزاء على رءوس الجبال أمواتا ، أم بعدما أحيين ؟ فإن كان أمر أن يدعوهن وهن ممزقات لا أرواح فيهن ، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال ؟ وإن كان أمر بدعائهن بعدما أحيين ، فما كانت حاجة إبراهيم  إلى دعائهن ، وقد أبصرهن ينشرن على رءوس الجبال ؟ قيل : إن أمر الله - تعالى ذكره - إبراهيم   - صلى الله عليه وسلم - بدعائهن وهن أجزاء متفرقات ، إنما هو أمر تكوين كقول الله للذين مسخهم قردة بعدما كانوا إنسا : ( كونوا قردة خاسئين   ) [ البقرة : 65 ] لا أمر عبادة ، فيكون محالا إلا بعد وجود المأمور المتعبد . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					