[ ص: 380 ]   ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا    ( 72 ) ) 
قوله - عز وجل - : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال     ) الآية . أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده ، عرضها على السماوات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، وهذا قول ابن عباس    . 
وقال ابن مسعود    : الأمانة : أداء الصلوات ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، وصدق الحديث ، وقضاء الدين ، والعدل في المكيال والميزان ، وأشد من هذا كله الودائع . 
وقال مجاهد    : الأمانة : الفرائض ، وقضاء الدين . 
وقال أبو العالية    : ما أمروا به ونهوا عنه 
وقال  زيد بن أسلم    : هو الصوم ، والغسل من الجنابة ، وما يخفى من الشرائع . 
وقال  عبد الله بن عمرو بن العاص    : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة استودعتكها ، فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له . 
وقال بعضهم : هي أمانات الناس والوفاء بالعهود ، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير ، وهي رواية الضحاك  عن ابن عباس  ، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السماوات والأرض والجبال ، هذا قول ابن عباس  وجماعة من التابعين وأكثر السلف ، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها ؟ قلن : وما فيها ؟ قال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن ، فقلن : لا يا ربنا ، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا ، وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة ، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها ، والجمادات كلها خاضعة لله - عز وجل - مطيعة ساجدة له كما قال جل ذكره للسماوات والأرض : " ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين    " ( فصلت - 11 ) ، وقال للحجارة : " وإن منها لما يهبط من خشية الله    " ( البقرة - 74 ) ، وقال تعالى : " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب   " ( الحج - 18 ) الآية . 
وقال بعض أهل العلم : ركب الله - عز وجل - فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن . 
وقال بعضهم : المراد من العرض على السماوات والأرض هو العرض على أهل السماوات والأرض ، عرضها على من فيها من الملائكة .   [ ص: 381 ] 
وقيل : على أهلها كلها دون أعيانها ، كقوله تعالى : " واسأل القرية    " ( يوسف - 82 ) ، أي : أهل القرية . والأول أصح وهو قول العلماء . 
( فأبين أن يحملنها وأشفقن منها    ) أي : خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب ( وحملها الإنسان    ) يعني : آدم  عليه السلام ، فقال الله لآدم    : إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها ؟ قال : يا رب وما فيها ؟ قال إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فتحملها آدم  ، وقال : بين أذني وعاتقي ، قال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك ، اجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فأرخ عليه حجابه ، واجعل للسانك لحيين غلقا فإذا غشيت فأغلق ، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرمت عليك . 
قال مجاهد    : فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر 
وحكى النقاش  بإسناده عن ابن مسعود  أنه قال : مثلت الأمانة كصخرة ملقاة ، ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها ، وقالوا : لا نطيق حملها ، وجاء آدم  من غير أن يدعى ، وحرك الصخرة ، وقال : لو أمرت بحملها لحملتها ، فقلن له : احملها ، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها ، وقال والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقلن له : احملها فحملها إلى حقوه ، ثم وضعها ، وقال : والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه ، فأراد أن يضعها فقال الله : مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة .   ( إنه كان ظلوما جهولا    ) قال ابن عباس    : ظلوما لنفسه جهولا بأمر الله وما احتمل من الأمانة . 
وقال الكلبي    : ظلوما حين عصى ربه ، جهولا لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة . وقال مقاتل    : ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل . 
وذكر الزجاج  وغيره من أهل المعاني ، في قوله وحملها الإنسان قولان ، فقالوا : إن الله ائتمن آدم  وأولاده على شيء وائتمن السماوات والأرض والجبال على شيء ، فالأمانة في حق بني آدم  ما ذكرنا في الطاعة والقيام بالفرائض ، والأمانة في حق السماوات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له . وقيل : قوله : ( فأبين أن يحملنها    ) أي : أدين الأمانة ، يقال : فلان لم يتحمل الأمانة أي : لم يخن فيها وحملها الإنسان أي : خان فيها ، يقال : فلان حمل الأمانة أي : أثم فيها بالخيانة .   [ ص: 382 ] 
قال الله تعالى : " وليحملن أثقالهم    " ( العنكبوت - 13 ) ، إنه كان ظلوما جهولا . حكي عن الحسن  على هذا التأويل : أنه قال وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق ، حملا الأمانة أي : خانا . وقول السلف ما ذكرنا . 
				
						
						
