( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين    ( 24 ) . 
( ولقد همت به وهم بها    ) والهم هو : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه . فهمها : عزمها على المعصية والزنا . 
وأما همه : فروي عن ابن عباس  رضي الله عنهما أنه قال : حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن . 
وعن مجاهد  قال : حل سراويله وجعل يعالج ثيابه . وهذا قول أكثر المتقدمين مثل سعيد بن جبير ،  والحسن    . 
وقال الضحاك :  جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بإحدى يديه إلى جيد يوسف  وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما . 
قال  أبو عبيد القاسم بن سلام    : وقد أنكر قوم هذا القول ، والقول ما قال متقدمو هذه الأمة ، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء عليهم السلام من غير علم . 
وقال  السدي   وابن إسحاق    : لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف  عليه السلام عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه ، وتشوقه إلى نفسها ، فقالت : يا يوسف ،  ما أحسن شعرك ! . 
قال : هو أول ما ينتثر من جسدي . 
قالت : ما أحسن عينيك !   [ ص: 229 ] 
قال : هي أول ما تسيل على وجهي في قبري . 
قالت : ما أحسن وجهك ! 
قال : هو للتراب يأكله . 
وقيل : إنها قالت : إن فراش الحرير مبسوط ، فقم فاقض حاجتي . 
قال : إذا يذهب نصيبي من الجنة . 
فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى اللذة ، وهو شاب يجد من شبق الشباب ما يجده الرجل ، وهي امرأة حسناء جميلة ، حتى لان لها مما يرى من كلفها ، وهم بها ، ثم إن الله تعالى تدارك عبده ونبيه بالبرهان الذي ذكره   . 
وزعم بعض المتأخرين : أن هذا لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام ، وقال : تم الكلام عند قوله : ( ولقد همت به    ) ثم ابتدأ الخبر عن يوسف  عليه السلام فقال : ( وهم بها لولا أن رأى برهان ربه    ) على التقديم والتأخير ، أي : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، ولكنه رأى البرهان فلم يهم . 
وأنكره النحاة وقالوا : إن العرب لا تؤخر ( لولا ) عن الفعل ، فلا تقول : لقد قمت لولا زيد ، [ وهو يريد لولا زيد لقمت ] . 
وقيل : همت بيوسف  أن يفترشها ، وهم بها يوسف  أي : تمنى أن تكون له زوجة .   [ ص: 230 ] وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين والعلم . 
وقال بعضهم : إن القدر الذي فعله يوسف  عليه السلام كان من الصغائر والصغائر تجوز على الأنبياء عليهم السلام   .   [ ص: 231 ] 
روي أن يوسف  عليه السلام لما دخل على الملك حين خرج من السجن وأقرت المرأة ، قال يوسف    : ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب    ) قال له جبريل    : ولا حين هممت بها يا يوسف ؟  فقال يوسف  عند ذلك : ( وما أبرئ نفسي    ) الآية . 
وقال  الحسن البصري    : إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء عليهم السلام في القرآن ليعيرهم ، ولكن ذكرها ليبين موضع النعمة عليهم ، ولئلا ييئس أحد من رحمته   . 
وقيل : إنه ابتلاهم بالذنوب ليتفرد بالطهارة والعزة ، ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية . 
وقيل : ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة وترك الإياس من المغفرة والعفو . 
وقال بعض أهل الحقائق : الهم همان : هم ثابت ، وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا ، مثل هم امرأة العزيز  ، والعبد مأخوذ به ، وهم عارض وهو الخطرة ، وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم ، مثل هم يوسف  عليه السلام ، فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل . 
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ،  أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ،  حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ،  حدثنا  أحمد بن يوسف السلمي ،  حدثنا عبد الرزاق ،  حدثنا معمر ،  عن  همام بن منبه ،  قال : حدثنا  أبو هريرة  رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها   [ ص: 232 ] وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ، ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها   " . 
قوله عز وجل : ( لولا أن رأى برهان ربه    ) اختلفوا في ذلك البرهان : قال قتادة  وأكثر المفسرين : إنه رأى صورة يعقوب  وهو يقول له : يا يوسف  تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء ! . 
وقال الحسن ،   وسعيد بن جبير ،  ومجاهد  ، وعكرمة ،  والضحاك    : انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب  عليه السلام عاضا على أصبعه . 
وقال سعيد بن جبير ،  عن ابن عباس  رضي الله عنهما : مثل له يعقوب  عليه السلام فضرب بيده في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله   . 
وقال  السدي    : نودي يا يوسف ،  تواقعها ! إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوف السماء لا يطاق ، ومثلك إن تواقعها مثله إذا مات ووقع على الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق ، ومثلك إن واقعتها مثل الثور يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفعه عن نفسه   . 
وعن مجاهد ،  عن ابن عباس  رضي الله عنهما في قوله : ( وهم بها    ) قال : حل سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته ، فإذا بكف قد بدت بينهما بلا معصم ولا عضد مكتوب عليها ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون    ) ( الانفطار - 11 ) ، فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهرت تلك الكف مكتوبا عليها : ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا    ) ( الإسراء - 32 ) فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد ، فظهر ، ورأى تلك الكف مكتوبا عليها : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله    ) ( البقرة - 281 ) فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد ، فقال الله عز وجل لجبريل  عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل  عليه السلام عاضا على أصبعه ، يقول : يا يوسف  تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء   . 
وروي أنه مسحه بجناحه فخرجت شهوته من أنامله .   [ ص: 233 ] 
وقال  محمد بن كعب القرظي    : رفع يوسف  رأسه إلى سقف البيت حين هم بها فرأى كتابا في حائط البيت : " لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا    "   . 
وروى عطية ،  عن ابن عباس    : في البرهان أنه رأى مثال الملك   . 
وقال  جعفر بن محمد الصادق  رضي الله عنهما : البرهان النبوة التي أودعها الله في صدره حالت بينه وبين ما يسخط الله عز وجل   . 
وعن علي بن الحسين  قال : كان في البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب ، فقال لها يوسف    : لم فعلت هذا ؟ . 
فقالت : استحييت منه أن يراني على المعصية . 
فقال يوسف    : أتستحين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ؟ فأنا أحق أن أستحي من ربي ، وهرب   .   [ ص: 234 ] 
قوله عز وجل : ( لولا أن رأى برهان ربه    ) جواب لولا محذوف ، تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لواقع المعصية . 
( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء    ) فالسوء : الإثم . وقيل : السوء القبيح . والفحشاء : الزنا . 
( إنه من عبادنا المخلصين    ) قرأ أهل المدينة ،  والكوفة    : ( المخلصين ) بفتح اللام حيث كان إذا لم يكن بعده ذكر الدين ، زاد الكوفيون    " مخلصا " في سورة مريم ففتحوا . 
ومعنى ( المخلصين ) المختارين للنبوة ، دليله : ( إنا أخلصناهم بخالصة    ) ( ص - 146 ) . 
وقرأ الآخرون بكسر اللام ، أي : المخلصين لله الطاعة والعبادة . 
				
						
						
