وكنت امرءا زمنا بالعراق خفيف المناخ طويل التغني
.كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا
بكاء حمامة تدعو هديلا مفجعة على فنن تغني
أطلق على صوتها غناء ؛ لأنه يطرب كما يطرب الغناء وإن لم يكن غناء حقيقة ، وهو كقولهم " العمائم تيجان العرب ، لكونها تقوم مقام التيجان ، وفيه قول آخر حسن وهو أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء ، قال ابن الأعرابي : كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى ، وإذا جلست في أفنيتها وفي أكثر أحوالها ، فلما نزل القرآن أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون هجيراهم القراءة مكان التغني . ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدم ؛ فإنه أراد بقوله : " طويل التغني " طول الإقامة لا الاستغناء لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء ، يعني أنه كان ملازما لوطنه بين أهله كانوا يتمدحون بذلك قال حسان :أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل
أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع ولا يبرحون من أوطانهم ، فيكون معنى الحديث الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره ، وهو يئول من حيث المعنى إلى ما اختاره من تخصيص الاستغناء وأنه يستغنى به عن غيره من الكتب ، وقيل : المراد من لم يغنه القرآن وينفعه في إيمانه ويصدق بما فيه من وعد ووعيد ، وقيل : معناه من لم يرتح لقراءته وسماعه ، وليس المراد ما اختاره البخاري أبو عبيد أنه يحصل به الغنى دون الفقر ، لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع إذا أريد به الغنى المعنوي وهو غنى النفس وهو القناعة لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر ، لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة إلا إن كان ذلك بالخاصية ، وسياق الحديث يأبى الحمل على ذلك فإن فيه إشارة إلى الحث على تكلف ذلك ، وفي توجيهه تكلف كأنه قال : ليس منا من لم يتطلب الغنى بملازمة تلاوته ، وأما الذي نقله عن فلم أره صريحا عنه في تفسير الخبر . وإنما قال في مختصر الشافعي المزني : وأحب أن يقرأ حدرا وتحزينا انتهى . قال أهل اللغة : حدرت القراءة أدرجتها ولم أمططها ، وقرأ فلان تحزينا إذا رقق صوته وصيره كصوت [ ص: 689 ] الحزين . وقد روى ابن أبي داود بإسناد حسن عن أنه قرأ سورة فحزنها شبه الرثي ، وأخرجه أبي هريرة أبو عوانة عن الليث بن سعد قال : يتغنى به يتحزن به ويرقق به قلبه . وذكر الطبري عن أنه سئل عن تأويل الشافعي ابن عيينة للتغني بالاستغناء فلم يرتضه وقال : لو أراد الاستغناء لقال : لم يستغن ، وإنما أراد تحسين الصوت . قال ابن بطال : وبذلك فسره ابن أبي مليكة وعبد الله بن المبارك ، ويؤيده رواية والنضر بن شميل عبد الأعلى عن معمر عن ابن شهاب في حديث الباب بلفظ : " " أخرجه ما أذن لنبي في الترنم في القرآن الطبري ، وعنده في رواية عبد الرزاق عن معمر " " وهذا اللفظ عند ما أذن لنبي حسن الصوت مسلم من رواية عن محمد بن إبراهيم التيمي أبي سلمة ، وعند ابن أبي داود من رواية والطحاوي عن عمرو بن دينار أبي سلمة عن أبي هريرة قال حسن الترنم بالقرآن الطبري : والترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القارئ وطرب به ، قال : ولو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى . وأخرج ابن ماجه وصححه والكجي ابن حبان من حديث والحاكم فضالة بن عبيد مرفوعا والقينة : المغنية ، وروى الله أشد أذنا - أي استماعا - للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ابن أبي شيبة من حديث عقبة بن عامر رفعه : كذا وقع عنده والمشهور عند غيره في الحديث " وتغنوا به " والمعروف في كلام العرب أن التغني الترجيع بالصوت كما قال تعلموا القرآن وغنوا به وأفشوه . حسان :تغن بالشعر إما أنت قائله إن الغناء بهذا الشعر مضمار
تغن بالقرآن حسن به الصوت حزينا جاهرا رنم واستغن عن كتب الألى
طالبا غنى يد والنفس ثم الزم