قال إسماعيل الخطبي في " تاريخه " : وظهر رجل يعرف بالحلاج ، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت به في وزارة علي بن عيسى ، وذكر عنه ضروب من الزندقة ، ووضع الحيل على تضليل الناس من جهات تشبه الشعوذة والسحر وادعاء النبوة ، فكشفه الوزير ، وأنهى خبره إلى المقتدر ، فلم يقر بما رمي به ، وعاقبه ، وصلبه حيا أياما ، ونودي عليه ، ثم حبس سنين ، ينقل من حبس إلى حبس ، حتى حبس بأخرة في دار السلطان ، فاستغوى جماعة من الغلمان ، وموه عليهم ، واستمالهم بحيلة ، حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه .
ثم راسل جماعة من الكبار ، فاستجابوا له ، وترامى به الأمر حتى ذكر عنه أنه ادعى الربوبية ، فسعي بجماعة من أصحابه ؛ فقبض عليهم ، ووجد عند بعضهم كتب له تدل على ما قيل عنه ، وانتشر خبره ، وتكلم الناس في قتله ، فسلمه الخليفة إلى الوزير حامد ، وأمر أن يكشفه بحضرة القضاة ، ويجمع بينه وبين أصحابه ، فجرت في ذلك خطوب ، ثم تيقن السلطان أمره ، فأمر بقتله وإحراقه لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة ، فضرب بالسياط نحوا من ألف ، وقطعت يداه ورجلاه ، وضربت [ ص: 336 ] عنقه ، وأحرق بدنه ، ونصب رأسه للناس ، وعلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه .
قال أبو علي التنوخي أخبرني أبو الحسين بن عياش القاضي عمن أخبره : أنه كان بحضرة حامد بن العباس لما قبض على الحلاج ، وقد جيء بكتب وجدت في داره من دعاته في الأطراف يقولون فيها : وقد بذرنا لك في كل أرض ما يزكو فيها ، وأجاب قوم إلى أنك الباب -يعني الإمام- ، وآخرون يعنون أنك صاحب الزمان - يعنون الإمام الذي تنتظره الإمامية - ، وقوم إلى أنك صاحب الناموس الأكبر - يعنون النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وقوم يعنون أنك هو هو- يعني الله عز وجل - .
قال : فسئل الحلاج عن تفسير هذه الكتب ، فأخذ يدفعه ويقول : هذه الكتب لا أعرفها ، هذه مدسوسة علي ، ولا أعلم ما فيها ، ولا معنى هذا الكلام . وجاءوا بدفاتر للحلاج فيها أن الإنسان إذا أراد الحج فإنه يكفيه أن يعمد إلى بيت . . وذكر القصة .
قال أبو علي بن البناء الحنبلي : كان عندنا بسوق السلاح رجل يقول : القرآن حجاب ، والرسول حجاب ، وليس إلا عبد ورب ، فافتتن به جماعة وتركوا العبادات ، ثم اختفى مخافة القتل .
وقال الخطيب " في تاريخه " ثم انتهى إلى حامد أن الحلاج قد موه على الحشم والحجاب بالدار بأنه يحيي الموتى ، وأن الجن يخدمونه ، وأظهر أنه قد أحيا عدة من الطير .
وقيل : إن القنائي الكاتب يعبد الحلاج ويدعو إليه ، فكبس بيته ، وأحضروا من داره دفاتر ورقاع بخط الحلاج ، فنهض حامد ، فدفعه المقتدر إلى حامد ، فاحتفظ به ، وكان يخرجه كل يوم [ ص: 337 ] إلى مجلسه ليظفر له بسقطة ، فكان لا يزيد على إظهار الشهادتين والتوحيد والشرائع ، وقبض حامد على جماعة يعتقدون إلهية الحلاج ، فاعترفوا أنهم دعاة الحلاج ، وذكروا لحامد أنه قد صح عندهم أنه إله ، وأنه يحيي الموتى ، وكاشفوا بذلك الحلاج ، فجحد ، وكذبهم ، وقال : أعوذ بالله أن أدعي النبوة والربوبية ، إنما أنا رجل أعبد الله وأكثر الصلاة والصوم وفعل الخير ، ولا أعرف غير ذلك .
قال إسماعيل بن محمد بن زنجي : أخبرنا أبي قال : كان أول ما انكشف من أمر الحلاج لحامد أن شيخا يعرف بالدباس كان ممن استجاب له ، ثم تبين مخرقته ، ففارقه ، واجتمع معه على هذه الحال أبو علي الأوارجي الكاتب ، وكان قد عمل كتابا ذكر فيه مخاريق الحلاج والحيل فيها ، والحلاج حينئذ مقيم عند نصر القشوري في بعض حجره ، موسع عليه ، مأذون لمن يدخل إليه ، وكان قد استغوى القشوري ، فكان يعظمه ، ويحدث أن علة عرضت للمقتدر في جوفه ، فأدخل إليه الحلاج ، فوضع يده عليها فعوفي ، فقام بذلك للحلاج سوق في الدار وعند أم المقتدر ، ولما انتشر كلام الدباس والأوارجي في الحلاج أحضر إلى الوزير ابن عيسى ، فأغلظ له ، فحكي في ذلك الوقت أنه تقدم إلى الوزير وقال له سرا : قف حيث انتهيت ولا تزد ، وإلا قلبت الأرض عليك . فتهيبه الوزير ، فنقل حينئذ إلى حامد بن العباس .
وكانت بنت السمري -صاحب الحلاج - قد أدخلت إليه ، وأقامت عنده في دار الخلافة ، وبعث بها إلى حامد ليسألها عما رأت ، فدخلت إلى حامد ، وكانت عذبة العبارة ، فسألها ، فحكت أنها حملها أبوها إلى الحلاج ، وأنها لما دخلت عليه وهب لها أشياء مثمنة ، منها ريطة خضراء [ ص: 338 ] وقال لها : زوجتك ابني سليمان ، وهو أعز ولدي علي ، وهو مقيم بنيسابور ، وليس يخلو أن يقع بين المرأة وزوجها خلاف ، أو تنكر منه حالا ، وقد أوصيته بك ، فمتى جرى عليك شيء ، فصومي يومك ، واصعدي إلى السطح ، وقومي على الرماد ، واجعلي فطرك عليه مع ملح ، واستقبلي ناحيتي ، واذكري ما أنكرته ; فإني أسمع وأرى .
قالت : وكنت ليلة نائمة ، فما أحسست به إلا وقد غشيني ، فانتبهت مذعورة منكرة لذلك ، فقال : إنما جئت لأوقظك للصلاة . ولما أصبحنا ومعي بنته نزل ، فقالت بنته : اسجدي له . فقلت : أويسجد لغير الله ؟ ! فسمع كلامي ، فقال : نعم ، إله في السماء وإله في الأرض .
قالت : ودعاني إليه ، وأدخل يده في كمه ، وأخرجها مملوءة مسكا ، فدفعه إلي ، وقال : هذا تراب ، اجعليه في طيبك .
وقال مرة : ارفعي الحصير ، وخذي ما تريدين . فرفعتها ، فوجدت الدنانير تحتها مفروشة ملء البيت ، فبهرني ما رأيت .
ولما حصل الحلاج في يد حامد ، جد في تتبع أصحابه ، فأخذ منهم حيدرة ، والسمري ، ومحمد بن علي القنائي ، وأبا المغيث الهاشمي ، وابن حماد ، وكبس بيته ، وأخذت منه دفاتر كثيرة ، وبعضها مكتوب بالذهب ، مبطنة بالحرير ، فقال له حامد : أما قبضت عليك بواسط فذكرت لي دفعة أنك المهدي ، وذكرت مرة أنك تدعو إلى عبادة الله ، فكيف ادعيت بعدي الإلهية ؟ .
وكان في الكتب عجائب من مكاتباته إلى أصحابه النافذين إلى [ ص: 339 ] النواحي ، يوصيهم بما يدعون الناس إليه ، وما يأمرهم به من نقلهم من حال إلى حال ، ورتبة إلى رتبة ، وأن يخاطبوا كل قوم على حسب عقولهم وقدر استجابتهم وانقيادهم ، وأجاب بألفاظ مرموزة ، لا يعرفها غير من كتبها وكتبت إليه ، وفي بعضها صورة فيها اسم الله على تعويج ، وفي داخل ذلك التعويج مكتوب : علي عليه السلام .
إلى أن قال : وحضرت مجلس حامد وقد أحضر سفط من دار القنائي ، فإذا فيه قدر جافة ، وقوارير فيها شيء كالزئبق ، وكسر جافة ، فعجب الوزير من تلك القدر ، وجعلها في سفط مختوم ، فسئل السمري ، فدافع ، فألحوا عليه ، فذكر أنها رجيع الحلاج ، وأنه يشفي ، وأن الذي في القوارير بوله . فقال السمري لي : فكل من هذه الكسر ، ثم انظر كيف يكون قلبك للحلاج .
ثم أحضر حامد الحلاج وقال : أيش في هذا السفط ؟ قال : ما أدري . وجاء غلام حامد الذي كان يخدم الحلاج ، فأخبر أنه دخل بطبق . قال : فوجده ملء البيت من سقفه إلى أرضه ، فهاله ما رأى ، ورمى بالطبق من يده وحم .
قال ابن زنجي : وحملت دفاتر من دور أصحاب الحلاج ، فأمرني حامد أن أقرأها والقاضي أبو عمر حاضر ، والقاضي أبو الحسين بن الأشناني ، فمن ذلك : أن الإنسان إذا أراد الحج أفرد في داره بيتا وطاف به أيام الموسم ، ثم جمع ثلاثين يتيما ، وكساهم قميصا قميصا ، وعمل لهم طعاما طيبا ، فأطعمهم ، وخدمهم ، وكساهم ، وأعطى لكل واحد سبعة دراهم أو ثلاثة ، فإذا فعل ذلك قام له ذلك مقام الحج .
فلما قرأ ذلك الفصل التفت القاضي أبو عمر إلى الحلاج ، وقال له : من أين لك هذا ؟ قال : من [ ص: 340 ] كتاب " الإخلاص " . قال : كذبت يا حلال الدم ! قد سمعنا كتاب " الإخلاص " وما فيه هذا . فلما قال للحسن البصري أبو عمر : كذبت يا حلال الدم ، قال له حامد : اكتب بهذا . فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاج ، فألح عليه حامد ، وقدم له الدواة ، فكتب بإحلال دمه ، وكتب بعده من حضر المجلس ، فقال الحلاج : ظهري حمى ، ودمي حرام ، وما يحل لكم أن تتأولوا علي ، واعتقادي الإسلام ، ومذهبي السنة ، فالله الله في دمي .
ولم يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم ، ثم نهضوا ، ورد الحلاج إلى الحبس ، وكتب إلى المقتدر بخبر المجلس ، فأبطأ الجواب يومين ، فغلظ ذلك على حامد ، وندم وتخوف ، فكتب رقعة إلى المقتدر في ذلك ويقول : إن ما جرى في المجلس قد شاع ، ومتى لم تتبعه قتل هذا افتتن به الناس ، ولم يختلف عليه اثنان .
فعاد الجواب من الغد من جهة مفلح : إذا كان القضاة قد أباحوا دمه فليحضر محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة ، ويتقدم بتسليمه وضربه ألف سوط ، فإن هلك وإلا ضربت عنقه .
فسر حامد ، وأحضر صاحب الشرطة ، وأقرأه ذلك ، وتقدم إليه بتسليم الحلاج ، فامتنع ، وذكر أنه يتخوف أن ينتزع منه ، فبعث معه غلمانه حتى يصيروه إلى مجلسه ، ووقع الاتفاق على أن يحضر بعد عشاء الآخرة ، ومعه جماعة من أصحابه ، وقوم على بغال موكفة مع سياس ، فيحمل على واحد منها ، ويدخل في غمار القوم . وقال حامد له : إن قال لك : أجري لك الفرات ذهبا ، فلا ترفع عنه الضرب .
فلما كان بعد العشاء أتى محمد بن عبد الصمد إلى حامد ، ومعه الرجال والبغال ، فتقدم إلى غلمانه بالركوب معه إلى داره ، وأخرج له الحلاج ، فحكى الغلام : أنه لما فتح الباب عنه وأمره بالخروج ، قال : من عند [ ص: 341 ] الوزير ؟ قال : محمد بن عبد الصمد . قال : ذهبنا والله . وأخرج ، فأركب بغلا ، واختلط بجملة الساسة ، وركب غلمان حامد حوله حتى أوصلوه ، فبات عند ابن عبد الصمد ، ورجاله حول المجلس .
فلما أصبح أخرج الحلاج إلى رحبة المجلس ، وأمر الجلاد بضربه ، واجتمع خلائق ، فضرب تمام ألف سوط وما تأوه ، بلى لما بلغ ستمائة سوط ، قال لابن عبد الصمد : ادع بي إليك ; فإن عندي نصيحة تعدل فتح قسطنطينية . فقال له محمد : قد قيل لي : إنك ستقول ما هو أكبر من هذا ، وليس إلى رفع الضرب سبيل .
ثم قطعت يده ، ثم رجله ، ثم حز رأسه ، وأحرقت جثته ، وحضرت في هذا الوقت راكبا والجثة تقلب على الجمر ، ونصب الرأس يومين ببغداد ، ثم حمل إلى خراسان وطيف به . وأقبل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما .
واتفق زيادة دجلة تلك السنة زيادة فيها فضل ، فادعى أصحابه أن ذلك بسببه ; لأن رماده خالط الماء .
وزعم بعضهم : أن المقتول عدو للحلاج ألقي عليه شبهه .
وادعى بعضهم أنه -في ذلك اليوم بعد قتله- رآه راكبا حمارا في طريق النهروان ، وقال : لعلكم مثل هؤلاء البقر الذين ظنوا أني أنا المضروب المقتول .
وزعم بعضهم أن دابة حولت في صورته . وأحضر جماعة من الوراقين ، فأحلفوا أن لا يبيعوا من كتب الحلاج شيئا ، ولا يشتروها .
[ ص: 342 ] عن فارس البغدادي قال : قطعت أعضاء الحلاج وما تغير لونه .
وعن أبي بكر العطوفي قال : قطعت يدا الحلاج ورجلاه وما نطق .
السلمي : سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان : سمعت محمد بن علي الكتاني يقول : سئل الحلاج عن الصبر ، فقال : أن تقطع يدا الرجل ورجلاه ، ويسمر ، ويصلب على هذا الجسر . قال : ففعل به كل ذلك .
وعن أبي العباس بن عبد العزيز -رجل مجهول- قال : كنت أقرب الناس من الحلاج حين ضرب ، فكان يقول مع كل سوط : أحد أحد .
السلمي : سمعت عبد الله بن علي ، سمعت عيسى القصار يقول : آخر كلمة تكلم بها الحسين بن منصور عند قتله : حسب الواحد إفراد الواحد له . فما سمع بهذه الكلمة فقير إلا رق له واستحسنها منه .