القادر بالله 
الخليفة أبو العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر جعفر بن المعتضد العباسي البغدادي ، وأمه اسمها تمني   . 
مولده سنة ست وثلاثين وثلاثمائة . 
وماتت أمه في دولته ، وقد عجزت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة . 
وكان أبيض كث اللحية يخضب ، دينا عالما متعبدا وقورا ، من جلة الخلفاء وأمثلهم ، عده ابن الصلاح  في الشافعية  ، تفقه على أبي بشر أحمد بن محمد الهروي   . 
 [ ص: 128 ] قال الخطيب   : كان من الدين وإدامة التهجد ، وكثرة الصدقات على صفة اشتهرت عنه . 
وصنف كتابا في الأصول ، ذكر فيه فضل الصحابة ، وإكفار من قال : بخلق القرآن ، وكان ذلك الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث ، ويحضره الناس مدة خلافته ، وهي إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر . 
قلت : قام بخلافته بهاء الدولة  كما تقدم في سنة إحدى وثمانين ، واستقدموه من البطائح  ، فجهزه أميرها مهذب الدولة علي بن نصر  ، وحمله من الآلات والرخت بما أمكن ، وأعطاه طيارا فلما قدم واسط أتاه الأجناد ، وطلبوا رسم البيعة ، وهاشوا فوعدهم بالجميل ، فرضوا ، فكان مقامه بالبطيحة  أزيد من سنتين ، فقدم واستكتب أبا الفضل محمد بن أحمد  عارض الديلم  ، وجعل أستاذ داره عبد الواحد الشيرازي  ، وحلف هو وبهاء الدولة  كل منهما لصاحبه ثم سلطنه . 
وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني  أن القادر  كان يلبس زي العامة ، ويقصد الأماكن المباركة وطلب من أبي الحسن بن القزويني   [ ص: 129 ] أن ينفذ له من طعامه ، فنفذ باذنجانا مقلوا بخل وباقلى ودبسا ، فأكل منه وفرق ، وبعث إليه بمائتي دينار فقبلها ، ثم طلب منه بعد طعاما ، فبعث إليه زبادي فراريج ودجاج وفالوذج ، فتعجب الخليفة وسأله ، فقال : لم أتكلف ; ولما وسع علي وسعت على نفسي . فأعجبه ، وكان يتفقده . 
وعملت الرافضة  عيد الغدير -يعني : يوم المؤاخاة- فثارت السنة ، وقووا ، وخرقوا علم السلطان ، وقتل جماعة ، وصلب آخرون ، فكفوا 
وفي هذا القرب طلب أمير مكة  أبو الفتوح العلوي  الخلافة ، وتسمى بالراشد بالله ، ولحق بآل جراح الطائي  بالشام  ، ومعه أقاربه ، ونحو من ألف عبد ، وحكم بالرملة  ، فانزعج العزيز  بمصر  ، وتلطف بالطائيين  ، وبذل لهم الأموال ، وكتب بإمارة الحرمين  لابن عم الراشد ، فوهن أمر الراشد  ، فأجاره أبو حسان الطائي  ، وتلطف له حتى عاد إلى إمرة مكة   . 
وفيها استولى بزال  على دمشق  ، وهزم متوليها منيرا   . 
 [ ص: 130 ] ونقص التشيع من بغداد  ، واستضرت الأمراء على بهاء الدولة  ، وقهروه حتى سلم إليهم أبا الحسن بن المعلم الكوكبي  ، فخنق وعظم القحط ببغداد   . 
وفي سنة 383 تزوج  القادر بالله  سكينة بنت الملك بهاء الدولة  واستفحل البلاء بالعيارين ببغداد  ، ولم يحج أحد من العراق   . 
ومات في سنة 87 فخر الدولة علي بن ركن الدولة بن بويه  بالري  ، ووزر له ابن عباد  وكان شهما شجاعا ، كان الطائع  قد لقبه ملك الأمة ، عاش ستا وأربعين سنة ، وكانت دولته أربع عشرة سنة ، وترك ألفي ألف دينار وثمانمائة ألف دينار ، ومن الجواهر ما قيمته ثلاثة آلاف ألف ، ومن آنية الذهب ما وزنه ألف ألف ، ومن آنية الفضة ما وزنه ثلاثة آلاف ألف ، ومن فاخر الثياب ثلاثة آلاف حمل ، وكانت خزائنه على ثلاثة آلاف وخمسمائة جمل . 
وفي سنة ثمان وثمانين هلك تسعة ملوك : صاحب مصر  العزيز  ، وصاحب خراسان  ، وفخر الدولة  المذكور ، وصاحب خوارزم  مأمون بن محمد  ، وصاحب بست  سبكتكين  ، وغيرهم . 
 [ ص: 131 ] وفي سنة تسعين وثلاثمائة ظهر بسجستان  معدن الذهب . 
وفي سنة إحدى وتسعين عقد القادر  بولاية العهد لابنه الغالب بالله  ، وهو في تسع سنين ، وعجل بذلك ; لأن الخطيب الواثق  سار إلى خراسان  ، وافتعل كتابا من القادر  بأنه ولي عهده ، واجتمع ببعض الملوك فاحترمه ، وخطب له بعد القادر  ، ونفذ رسولا إلى القادر  بما فعل ، فأثبت فسق الواثقي  ، ومات غريبا . 
وكان الرفض علانية بدمشق  في سنة أربعمائة ، ولقد أخذ نائبها تمصولت البربري  رجلا في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، فطيف به على حمار : هذا جزاء من يحب أبا بكر  وعمر  ، ثم قتل . 
وفي هذا الحين ظهر أبو ركوة الأموي  ، والتف عليه من المغاربة  والعرب خلق ، وحارب ولعن  الحاكم  ، فجهز الحاكم لحربه ستة عشر ألفا ، فظفروا به ، وقتل . 
 [ ص: 132 ] وفي سنة أربعمائة عمل ابن سهلان سورا منيعا على مشهد علي . وافتتح محمود بن سبكتكين  فتحا عظيما من الهند   . 
وفي هذا الوقت انبثت دعاة  الحاكم  في الأطراف ، فأمر القادر  بعمل محضر يتضمن القدح في نسب العبيدية  وأنهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد الخرمي  ، فشهدوا جميعا أن الناجم بمصر  منصور بن نزار الحاكم  حكم الله عليه بالبوار ، وأن جدهم لما صار إلى الغرب تسمى بالمهدي عبيد الله  ، وهو وسلفه أرجاس أنجاس خوارج أدعياء ، وأنتم تعلمون أن أحدا من الطالبيين  لم يتوقف عن إطلاق القول بأنهم أدعياء ، وأن هذا الناجم وسلفه كفار زنادقة ، ولمذهب الثنوية  والمجوسية  معتقدون ، عطلوا الحدود ، وأباحوا الفروج ، وسفكوا الدماء ، وسبوا الأنبياء ، ولعنوا السلف ، وادعوا الربوبية ، وكتب في المحضر الشريف الرضي  ،  والشريف المرتضى  ، ومحمد بن محمد بن عمر  ، وابن الأزرق  العلويون ، والقاضي أبو محمد بن الأكفاني  ، والقاسم أبو القاسم الجزري  ، والشيخ  أبو حامد الإسفراييني  ، وأبو محمد الكشفلي  وأبو الحسين  [ ص: 133 ] القدوري  وأبو علي بن حمكان   . 
وورد على الخليفة كتاب محمود  أنه غزا الكفار ، وهم خلق معهم ستمائة فيل ، وأنه نصر عليهم . 
وفي سنة ثلاث وأربعمائة استبيح وفد العراق  ، وقل من نجا ، فيقال : هلك خمسة عشر ألفا ، وتسمى وقعة الفرعاء ، فسار ابن مزيد  ولحقهم بالبرية ، فقتل منهم مقتلة ، وأسر أربعة عشر من كبارهم ، فأهلكوا ببغداد   . 
وبعث ابن سبكتكين  إلى القادر  بأنه ورد إليه الداعي من  الحاكم  يدعوه إلى طاعته ، فخرق كتابه ، وبصق عليه . 
ومات في حدودها أيلك خان صاحب ما وراء النهر   الذي أخذ البلاد من آل سامان  من بضع عشرة سنة ، وكان ظالما مهيبا شديد الوطأة ، وقد وقع بينه وبين طغان  ملك الترك  حروب ، فورث أخوه طغان  مملكته ومالأه ابن سبكتكين  ، فتحركت جيوش الصين  لحرب طغان  في أزيد من مائة ألف خركاه فالتقاهم طغان  ، ونصره الله . 
 [ ص: 134 ] ومات بهاء الدولة أحمد بن عضد الدولة  ، وتسلطن ابنه سلطان الدولة  في ربيع الأول سنة أربع وجلس القادر  لذلك ، وقبل الأرض ، فخر الملك الوزير  وقرأ ابن حاجب النعمان  العهد ، وعلم عليه القادر  ، وأحضرت الخلع والتاج والطوق والسواران واللواءان ، فعقدهما الخليفة بيده ، وأعطى سيفا للخادم ، فقال : قلده به فهو فخر له ولعقبه ، وبعث بذلك إلى شيراز   . 
وفيها أبطل  الحاكم  المنجمين من ممالكه ، وأعتق أكثر مماليكه وجعل ولي عهده ابن عمه عبد الرحيم بن إلياس  ، وأمر بحبس النساء في البيوت ، فاستمر ذلك خمسة أعوام وصلحت سيرته -لا أصلحه الله- ومنع ببغداد  فخر الملك  من عمل عاشوراء . 
ووقعت القبة التي على صخرة بيت المقدس  وافتتح ابن سبكتكين  خوارزم  ووقع ببغداد  بين الشيعة  والسنة فتن عظمى ، واشتد البلاء واستضرت عليهم السنة ، وقتل جماعة . 
واستتاب القادر  فقهاء المعتزلة  ، فتبرءوا من الاعتزال والرفض ، وأخذت خطوطهم بذلك . 
 [ ص: 135 ] وتزوج سلطان الدولة  ببنت صاحب الموصل  قرواش   . 
وقتل الدرزي الذي ادعى ربوبية  الحاكم   . 
وامتثل ابن سبكتكين  أمر القادر  ، فبث السنة بممالكه ، وتهدد بقتل الرافضة  والإسماعيلية  والقرامطة  ، والمشبهة  والجهمية  والمعتزلة  ، ولعنوا على المنابر . 
وفيها -أعني سنة تسع- قدم سلطان الدولة  بغداد   . 
وافتتح ابن سبكتكين  عدة مدائن بالهند  ، وورد كتابه ففيه : صدر العبد من غزنة  في أول سنة عشر وأربعمائة ، وانتدب لتنفيذ الأوامر ، فرتب في غزنة  خمسة عشر ألف فارس ، وأنهض ابنه في عشرين ألفا ، وشحن بلخ  وطخارستان  باثني عشر ألف فارس ، وعشرة آلاف راجل ، وانتخب ثلاثين ألف فارس ، وعشرة آلاف راجل لصحبة راية الإسلام . 
وانضم إليه المطوعة  ، فافتتح قلاعا وحصونا ، وأسلم زهاء عشرين ألفا ، وأدوا نحو ألف ألف من الورق ، وثلاثين فيلا ، وعدة الهلكى خمسون ألفا . 
ووافى العبد مدينة لهم عاين فيها نحو ألف قصر ، وألف بيت للأصنام ، ومبلغ ما على الصنم ثمانية وتسعون ألف دينار ، وقلع أزيد من ألف صنم ، لهم صنم  [ ص: 136 ] معظم يؤرخون مدته بجهالتهم بثلاثمائة ألف سنة ، وحصلنا من الغنائم عشرين ألف ألف درهم ، وأفرد الخمس من الرقيق ، فبلغ ثلاثة وخمسين ألفا ، واستعرضنا ثلاثمائة وستة وخمسين فيلا . 
ونفذت من  القادر بالله  خلع السلطنة لقوام الدولة  بولاية كرمان   . 
وناب بدمشق  عبد الرحيم  ولي عهد  الحاكم   . 
وقتل بمصر   الحاكم  ، وأراح الله منه في سنة إحدى عشرة . 
وفي سنة أربع عشرة أقبل الملك مشرف الدولة  مصعدا إلى بغداد  من ناحية واسط  ، وطلب من  القادر بالله  أن يخرج لتلقيه ، فتلقاه في الطيار ، وما فعل ذلك بملك قبله ، وجاء مشرف الدولة  ، فصعد من زبزبه [ إلى ] الطيار ، فقبل الأرض ، وأجلس على كرسي وكان موت مشرف الدولة ابن بهاء الدولة  في سنة ست عشرة ، فنهبت خزائنه . 
وخطب لجلال الدولة  ، ثم إن الأمراء عدلوا إلى الملك أبي كاليجار  ونوهوا باسمه ، وكان ولي عهد أبيه سلطان الدولة  ، فخطب لهذا ببغداد  ، وكثرت العملات ببغداد  جدا ، واستباح جلال الدولة  الأهواز  ، فنهب منها ما قيمته  [ ص: 137 ] خمسة آلاف ألف دينار ، وأحرقت في أماكن ودثرت . 
ومرض  القادر بالله  في سنة إحدى وعشرين ، ثم جلس للناس ، وأظهر ولاية العهد لولده أبي جعفر   . 
وكان طاغية الروم  قد قصد الشام  في ثلاثمائة ألف ، ومعه المال على سبعين جمازة فأشرف على عسكره مائة فارس من الأعراب وألف راجل ، فظنوا أنها كبسة ، فلبس ملكهم خفا أسود لكي يختفي ، وهرب ، فنهب من حواصله أربعمائة بغل بأحمالها ، وقتل من جيشه خلق ، وأخذ البرجمي اللص  وأعوانه العملات والمخازن الكبار ، ونهبوا الأسواق ، وعم البلاء وخرج على جلال الدولة  جنده لمنع الأرزاق . 
وفي ذي الحجة من سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة ، مات  القادر بالله  في أول أيام التشريق ، وصلى عليه ابنه القائم بأمر الله  ، وكبر عليه أربعا ودفن في الدار ، ثم بعد عشرة أشهر نقل تابوته إلى الرصافة  ، وعاش سبعا وثمانين سنة سوى شهر وثمانية أيام وما علمت أحدا من خلفاء هذه الأمة بلغ هذا السن ، حتى ولا عثمان   -رضي الله عنه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					