عماد الدولة بن هود 
كان أحد ملوك الأندلس  في حدود الخمس مائة ، وهو من بيت مملكة تملكوا شرق الأندلس  ، فلما استولى الملثمون على الأندلس  ، أبقى يوسف بن تاشفين  على ابن هود  ، فلما تملك علي بن يوسف  بعد أبيه كان فيه سلامة باطن ، فحسن له وزراؤه أخذ الملك من ابن هود  ، حتى قالوا له : إن أموال المستنصر العبيدي  صارت في غلاء مصر  المفرط تحولت كلها إلى بني هود  ، وقالوا : الشرع يأمرك أن تسعى في خلعهم لكونهم مسالمين الروم  ، فجهز لهم الأمير أبا بكر بن تيفلوت  فتحصن عماد الدولة بروطة  وكتب إلى علي بن تاشفين  يستعطفه في المسالمة ، ويقول : لكم فيما فعله أبوكم أسوة  [ ص: 38 ] حسنة ، وسيعلم مبرم هذا الرأي عندكم سوء مغبته ، والله حسيب من معي ، وحسبنا الله وكفى . 
فأمر علي بن يوسف  بالكف ، وأنى ذلك وقد أدخلته الرعية سرقسطة  ، وكان ابن رذمير  اللعين صاحب مملكة أرغونة  من شرق الأندلس  قسيسا مجربا داهية مترهبا ، فقوي على بلاد ابن هود  ، وطواها ، وقنع عماد الدولة بن هود  بدار سكناه ، وكان ابن رذمير  لا يتجهز إلا في عسكر قليل كامل العدة ، فيلقى بالألف آلافا . 
قال اليسع بن حزم   : حدثني عنه أبو القاسم هلال  أحد وجوه العرب قال : كان بيني وبين المرابطين أمر ألجأني إلى الوفود على ابن رذمير  ، فرحب بي ، وأمر لي براتب كبير ، فحضرت معه حربا طعن عنه حصانه ، فوقفت عليه ذابا عن حوزته . 
فلما انصرفنا إلى رشقة ، أمر الصواغين بعمل كأس من ذهب رصعه بالدر ، وكتب عليه : " لا يشرب منه إلا من وقف على سلطانه " فحضرت يوما ، فأخرج الكأس ، وملأه شرابا ، وناولني بحضرة ألف فارس ، ورأيت أعناقهم قد اسودت من صدأ الدروع . قال : فناديت ، وقلت : غيري أحق به ، فقال : لا يشرب هذا إلا من عمل عملك . 
وكان هلال  هذا من قرية هلال بن عامر  ، تاب بعد ، وغزا معنا ، فكان إذا حضر في الصف جبلا راسيا يمنع تهائم الجيوش أن تميد ، وقلبا في البسالة قاسيا ، يقول في مقارعة الأبطال : هل من مزيد . أبصرته -رحمه الله -أمة وحده ، يتحاماه الفوارس ، فحدثني عن ابن رذمير   . وإنصافه قال : كنت معه بظاهر روطة وقد وجه إليه عماد الدولة  وزيره أبا محمد عبد الله بن همشك الأمير  رسولا ، فطلب فارس من ابن رذمير  أن يمكن من مبارزة ابن همشك  فقال : لا ، هو عندنا ضيف . فسمع بذلك ابن همشك  ، وأمضى ابن رذمير  حاجته ،  [ ص: 39 ] وصرفه ، فقال : لا بد لي من مبارزة هذا ، فأمر الملك ذاك الفارس بالمبارزة ، وقال : هذا أشجع الروم  في زمانه ، فانصرف عبد الله  يريد روطة  ، وخرج وراءه الرومي شاكا في سلاحه ، وما مع ابن همشك  درع ولا بيضة ، فأخذ رمحه وطارقته من غلامه ، وقصد الرومي  ، فحمل كل منهما على الآخر حملات . 
ثم ضربه ابن همشك  في الطارقة ، فأعانه الله ، فانقطع حزام الفارس ، فوقع بسرجه إلى الأرض ، فطعنه ابن همشك  ، فقتله ، والملك يشاهده على بعد ، فهمت الروم  بالحملة على ابن همشك  ، فمنعهم الملك ، ونزل غلام ابن همشك  ، فجرد الفارس ، وسلبه ، وأخذ فرسه ، وذهب لم يلتفت إلى ناحيتنا ، فما أدري مم أعجب ، من إنصاف الملك ، أو من ابن همشك  كيف مضى ولم يعرج إلينا ؟ ! 
وأقام ابن رذمير  محاصرا سرقسطة  زمانا ، وأخذ كثيرا من حصونها ، فلما رأى أبو عبد الله محمد بن غلبون  القائد ما حل بتلك البلاد من الروم  ، ثار بدورقة وقلعة أيوب  وملينة ، وجمع وحشد ، وكافح ابن رذمير  ، واستولى أبو بكر بن تيفلوت  على سرقسطة  ، وأقام بقصرها في لذاته . 
وأما ابن غلبون  ، فأحسن السيرة ، وعدل ، وجاهد ، ورزق الجند ، رأيته رجلا طوالا جدا ، واجتمعت به ، أقام مثاغرا لابن رذمير  شجى في حلقه ، التقى مرة في ألف فارس لابن رذمير  ، والآخر في ألف ، فاشتد بينهما القتال ، وطال ، ثم حمل ابن غلبون  على ابن رذمير  ، فصرعه عن حصانه ، فدفع عنه أصحابه ، فسلم ، ثم انهزموا ، ونجا اللعين في نحو المائتين فقط . 
وأما ابن تيفلوت  ، فإنه راسل ابن غلبون  ، وخدعه ، حتى حسن له زيارة أمير المسلمين علي بن  [ ص: 40 ] يوسف  ، فاستخلف على بلاده ولده أبا المطرف  ، وكان من الأبطال الموصوفين أيضا ، فقدم محمد  مراكش  ، فأمسك ، وألزم بأن يخاطب بنيه في إخلاء بلاده للمرابطين . 
فأخلوها طاعة لأبيهم ، وترحلوا إلى غرب الأندلس  ، ففرح بذلك ابن رذمير  ، وحصر سرقسطة  ، وصنع عليها برجين عظيمين من خشب . ، وإن أهلها لما يئسوا من الغياث ، خرجوا ، وأحرقوا البرجين ، واقتتلوا أشد قتال ، وكتبوا إلى ابن تاشفين  يستصرخون به . 
ومات ابن تيفلوت  ، وذلك في سنة إحدى عشرة وخمس مائة ، فأنجدهم بأخيه تميم بن يوسف  ، فقدم في جيش كبير ، وعنى ابن رذمير  جيوشه ، ففرح أهل سرقسطة  بتميم ، فكان عليهم لا لهم ، جاء مواجه المدينة ، ثم نكب عنها ، وكان طائفة من خيلها ورجلها قد تلقوه ، فحمل عليهم حملة قتل منهم جماعة كثيرة ، ثم نكب عن لقاء العدو ، وانصرف إلى جهات المورالة . 
واشتد البلاء على البلد ، ثم سلموه بالأمان ، على أن من شاء أقام به ، وكان ابن رذمير  معروفا بالوفاء ، حدثني من أثق به أن رجلا كانت له بنت من أجمل النساء ، ففقدها ، فأخبر أن كبيرا من رءوس الروم  خرج بها إلى سرقسطة  ، فتبعه أبواها وأقاربها ، فشكوه إلى ابن رذمير  ، فأحضره ، وقال : علي بالنار ، كيف تفعل هذا بمن هو في جواري ؟ فقال الرومي : لا تعجل علي ، فإنها فرت إلى ديننا ، فجيء بها ، فأنكرت أبويها ، وارتدت . 
ولما دخل سرقسطة  ، أقرهم على الصلاة في جامعها سبعة أعوام ، وبعد ذلك يعمل ما يرى ، وحاصر قتندة  بعد سرقسطة  سنتين . 
فلما كان في آخر سنة أربع عشرة ، قصده عبد الله بن حيونة  في جيش فيهم قاضي المرية  أبو عبد الله بن الفراء  ، وأبو علي بن سكرة  ، فبرز لهم اللعين ، فقتل خلقا ، وأسر آخرون ،  [ ص: 41 ] واستشهد المذكوران ، فبنى عليهم ابن رذمير  قبورا ، ثم سلم البلد إليه ، وأخذ في تلك المدة دورقة ، وقلعة أيوب  ، وطرسونة  ، أكثر من مائتي مسور ، ولم يبق أكثر من ثلاثة مدائن لم يأخذها ، وبقي من أعمال بني هود  لاردة  وإفراغة  ، وطرطوشة  ، وغير ذلك معاملة عشرة أيام لم يظفر اللعين بها ، فقام بلاردة الهمام البطل أبو محمد  وقام بإفراغة الزاهد المجاهد محمد مردنيش الجذامي  جد الأمير محمد بن سعد   . 
				
						
						
