وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم   
هذا فريق آخر عطف خبره على خبر الفرق الآخرين . والمراد بهؤلاء من بقي من المخلفين لم يتب الله عليه ، وكان أمرهم موقوفا إلى أن يقضي الله بما يشاء . وهؤلاء نفر ثلاثة ، هم :  كعب بن مالك ،  وهلال بن أمية ،  ومرارة بن الربيع ،  وثلاثتهم قد تخلفوا عن غزوة تبوك    . ولم يكن تخلفهم نفاقا ولا كراهية للجهاد ولكنهم شغلوا عند خروج الجيش وهم يحسبون أنهم يلحقونه وانقضت الأيام وأيسوا من اللحاق . وسأل عنهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - وهو في تبوك . فلما رجع النبيء - صلى الله عليه وسلم - أتوه وصدقوه ، فلم يكلمهم ، ونهى المسلمين عن كلامهم ومخالطتهم ، وأمرهم باعتزال نسائهم ، فامتثلوا وبقوا كذلك خمسين ليلة ، فهم في تلك المدة مرجون لأمر الله . وفي تلك المدة نزلت هذه الآية ثم تاب عليهم ليتوبوا    . وأنزل فيهم قوله : لقد تاب الله على النبيء والمهاجرين والأنصار  إلى قوله وكونوا مع الصادقين  
وعن  كعب بن مالك  في قصته هذه حديث طويل أغر في صحيح  البخاري    .   [ ص: 27 ] على التوبة والتنبيه إلى فتح بابها . وقد جوز المفسرون عود ضمير ( ألم يعلموا ) إلى الفريقين اللذين أشرنا إليهما . 
وقوله : هو يقبل التوبة    ( هو ) ضمير فصل مفيد لتأكيد الخبر . و ( عن عباده ) متعلقة بـ ( يقبل ) لتضمنه معنى يتجاوز ، إشارة إلى أن قبول التوبة هو التجاوز عن المعاصي المتوب منها . 
فكأنه قيل : يقبل التوبة ويتجاوز عن عباده . وكان حق تعدية فعل ( يقبل ) أن يكون بحرف ( من ) . ونقل الفخر  عن  القاضي عبد الجبار  أنه قال : لعل ( عن ) أبلغ لأنه ينبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت . ولم يبين وجه ذلك ، وأحسب أنه يريد ما أشرنا إليه من تضمين معنى التجاوز . 
وجيء بالخبر في صورة كلية لأن المقصود تعميم الخطاب ، فالمراد بعباده جميع الناس مؤمنهم وكافرهم ، لأن التوبة من الكفر هي الإيمان . 
والآية دليل على قبول التوبة  قطعا إذا كانت توبة صحيحة لأن الله أخبر بذلك في غير ما آية . وهذا متفق عليه بالنسبة لتوبة الكافر عن كفره لأن الأدلة بلغت مبلغ التواتر بالقول والعمل ، ومختلف فيه بالنسبة لتوبة المؤمن من المعاصي لأن أدلته لا تعدو أن تكون دلالة ظواهر ; فقال المحققون من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين مقبولة قطعا . ونقل عن الأشعري  وهو قول المعتزلة  واختاره ابن عطية  وأبوه وهو الحق . وادعى الإمام في " المعالم " الإجماع عليه وهو أولى بالقبول . وقال الباقلاني  وإمام الحرمين  والمازري    : إنما يقطع بقبول توبة طائفة غير معينة ، يعنون لأن أدلة قبول جنس التوبة على الجملة متكاثرة متواترة بلغت مبلغ القطع ولا يقطع بقبول توبة تائب بخصوصه . وكأن خلاف هؤلاء يرجع إلى عدم القطع بأن التائب المعين تاب توبة نصوحا . وفي هذا نظر لأن الخلاف في توبة مستوفية أركانها وشروطها . وقد تقدم ذلك عند قوله - تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة  الآية ، في سورة النساء . 
والأخذ في قوله : ويأخذ الصدقات  مستعمل في معنى القبول ، لظهور أن الله لا يأخذ الصدقة أخذا حقيقيا ، فهو مستعار للقبول والجزاء على الصدقة . 
 [ ص: 28 ] وقرأ نافع  وحمزة   والكسائي  وحفص  عن عاصم  وأبو جعفر  وخلف ( مرجون ) بسكون الواو بدون همز على أنه اسم مفعول من ( أرجاه ) بالألف ، وهو مخفف ( أرجأه ) بالهمز إذا أخره ، فيقال في مضارعه المخفف : أرجيته بالياء ، كقوله : ترجي من تشاء منهن  بالياء ، فأصل مرجون مرجيون . وقرأ البقية ( مرجئون ) بهمز بعد الجيم على أصل الفعل كما قرئ ترجئ من تشاء . واللام في قوله : ( لأمر الله ) للتعليل ، أي مؤخرون لأجل أمر الله في شأنهم . وفيه حذف مضاف ، تقديره : لأجل انتظار أمر الله في شأنهم لأن التأخير مشعر بانتظار شيء . 
وجملة إما يعذبهم وإما يتوب عليهم  بيان لجملة ( وآخرون مرجون ) باعتبار متعلق خبرها وهو ( لأمر الله ) ، أي أمر الله الذي هو إما تعذيبهم وإما توبته عليهم . ويفهم من قوله : ( يتوب عليهم ) أنهم تابوا . 
والتعذيب مفيد عدم قبول توبتهم حينئذ لأن التعذيب لا يكون إلا عن ذنب كبير . وذنبهم هو التخلف عن النفير العام ، كما تقدم عند قوله - تعالى : يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض  الآية . وقبول التوبة عما مضى فضل من الله . 
و ( إما ) حرف يدل على أحد شيئين أو أشياء . ومعناها قريب من معنى ( أو ) التي للتخيير ، إلا أن ( إما ) تدخل على كلا الاسمين المخير بين مدلوليهما وتحتاج إلى أن تتلى بالواو ، و ( أو ) لا تدخل إلا على ثاني الاسمين . وكان التساوي بين الأمرين مع ( إما ) أظهر منه مع ( أو ) لأن ( أو ) تشعر بأن الاسم المعطوف عليه مقصود ابتداء . وتقدم الكلام عليها عند قوله - تعالى : قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين  في سورة الأعراف . 
و ( يعذبهم ) - و ( يتوب عليهم    ) فعلان في معنى المصدر حذفت ( أن ) المصدرية منهما فارتفعا كارتفاع قولهم " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " لأن موقع ما بعد ( إما ) للاسم نحو إما العذاب وإما الساعة  و إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا  
وجملة والله عليم حكيم تذييل مناسب لإبهام أمرهم على الناس ، أي والله عليم بما يليق بهم من الأمرين ، محكم تقديره حين تتعلق به إرادته . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					