[ ص: 277 ] آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين   فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون  
مقول لقول حذف لدلالة المقام عليه ، تقديره : قال الله . وهو جواب لقوله : آمنت لأنه قصد بقوله ذلك طلب الإنجاء من الغرق اعترافا لله بالربوبية ، فكأنه وجه إليه كلاما . فأجابه الله بكلام . 
وقال الله هذا الكلام له على لسان الملك الموكل بتعذيبه تأييسا له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة ، تلك النجاة التي هي مأمولة حين قال آمنت إلى آخره ، فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى ،  وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله ، ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق . ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه فاليوم ننجيك ببدنك  كما سيأتي . 
والاستفهام في آلآن إنكاري . 
والآن : ظرف لفعل محذوف دل عليه قوله : آمنت تقديره : الآن تؤمن ، أي هذا الوقت . ويقدر الفعل مؤخرا ; لأن الظرف دل عليه ، ولأن محط الإنكار هو الظرف . 
والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي علق به الإنكار ليس وقتا ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي ، فيكون المعنى : لا إيمان الآن . 
والمنفي هو إيمان ينجي من حصل منه في الدنيا والآخرة . وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت . وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي ، كما تقدم عند قوله - تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار  
 [ ص: 278 ] والآن اسم ظرف للزمان الحاضر . وقد تقدم عند قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم  في سورة الأنفال . 
وجملة وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين  في موضع الحال من معمول تؤمن المحذوف ، وهي مؤكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار ، فإن إيمانه في ذلك الحين منكر ، ويزيده إنكارا أن صاحبه كان عاصيا لله ومفسدا للدين الذي أرسله الله إليه ، ومفسدا في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر . 
وصيغة وكنت من المفسدين  أبلغ في الوصف بالإفساد من : وكنت مفسدا ، كما تقدم آنفا ، وبمقدار ما قدمه من الآثام والفساد يشدد عليه العذاب . 
والفاء التي في قوله : ( فاليوم ) فاء الفصيحة ، تفصح عن شرط مقدر في الكلام يدل عليه السياق . والمعنى : فإن رمت بإيمانك بعد فوات وقته أن أنجيك من الغرق فاليوم ننجيك ببدنك ، والكلام جار مجرى التهكم ، فإطلاق الإنجاء على إخراجه من البحر استعارة تهكمية . 
وليس مسوغها التهكم المحض كما هو الغالب في نوعها ، بل فيها علاقة المشابهة ; لأن إخراجه إلى البر كاملا بشكته يشبه الإنجاء ، ولكنه ضد الإنجاء ، فكان بالمشابهة ، استعارة ، وبالضدية تهكما ، والمجرور في قوله : ببدنك حال . 
والأظهر أن الباء من قوله : ببدنك مزيدة للتأكيد ، أي تأكيد آية إنجاء الجسد ، فيكون قوله : بدنك في معنى البدل المطابق من الكاف في ننجيك كزيادة الباء في قول الحريري    : " فإذا هو أبو زيد بعينه ومينه " . 
والبدن : الجسم بدون روح وهذا احتراس من أن يظن المراد الإنجاء من الغرق . والمعنى : ننجيك وأنت جسم . كما يقال : دخلت عليه فإذا هو جثة ; لأنه لو لم يكن المقصود الاقتصار على تلك الحالة لما كان داع للبليغ أن يزيد ذلك القيد ،   [ ص: 279 ] فإن كل زيادة في الكلام البليغ يقصد منها معنى زائد ، وإلا لكانت حشوا في الكلام والكلام البليغ موزون ، ولغة العرب مبنية على أساس الإيجاز . 
ولمن خلفك أي من وراءك . والوراء : هنا مستعمل في معنى المتأخر والباقي ، أي من ليسوا معك . والمراد بهم من يخلفه من الفراعنة ومن معهم من الكهنة والوزراء ، أي لتكون ذاته آية على أن الله غالب من أشركوا به ، وأن الله أعظم وأقهر من فرعون  وآلهته في اعتقاد القبط ،  إذ يرون فرعون  الإله عندهم طريحا على شاطئ البحر غريقا . فتلك ميتة لا يستطيعون معها الدجل بأنه رفع إلى السماء ، أو أنه لم يزل يتابع بني إسرائيل ،  أو نحو ذلك من التكاذيب لأنهم كانوا يزعمون أن فرعون  لا يغلب ، وأن الفراعنة حين يموتون إنما ينقلون إلى دار الخلود . ولذلك كانوا يموهون على الناس فيبنون له البيوت في الأهرام ويودعون بها لباسه وطعامه ورياشه وأنفس الأشياء عنده ، فموته بالغرق وهو يتبع أعداءه ميتة لا تئول بشيء من ذلك ، فلذلك جعل كونه آية لمن خلفه علة لإخراجه من غمرة الماء ميتا كاملا ، فهم مضطرون إلى الاعتراف بأنه غرق إذا نظروا في تلك الآية . 
ولم يعدم فرعون  فائدة من إيمانه ، فإن الله بحكمته قدر له الخروج من غمرات الماء ، فلم يبق في الماء أكلة للحيتان ولكن لفظته الأمواج ، وتلك حالة أقل خزيا من حالات سائر جيشه ، بها ظهر نفع ما له بما حصل لنفسه من الإيمان في آخر أحواله . 
وكلمة فاليوم مستعملة في معنى الآن لأن اسم اليوم أطلق على جزء من زمن الحال مجازا بعلاقة الكلية والجزئية . 
وجملة وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون  تذييل لموعظة المشركين ، والواو اعتراضية ، أو واو الحال . 
 [ ص: 280 ] والمراد منه : دفع توهم النقص عن آيات الله عند ما يحرم كثير من الناس الاهتداء بها ، فهي في ذاتها دلائل هدى سواء انتفع بها بعض الناس أم لم ينتفعوا فالتقصير منهم . 
واعلم أن هذه الآية أصرح آية في القرآن دلالة على أن فرعون  الذي أرسل إليه موسى  والذي اتبع بني إسرائيل  بعد خروجهم من مصر  قد أصابه الغرق . وقد أشارت إليه آية سورة الأعراف وآية سورة البقرة . 
وفرعون  هذا هو منفطاح الثاني ، ويقال له ( ميرنبتا    ) - بباء فارسية - أو ( منفتاح    ) ، أو ( منيفتا    ) وهو ابن رعمسيس  الثاني المعروف عند اليونان  باسم ( سيزوستريس    ) ، من ملوك العائلة التاسعة عشرة من الأسر الفرعونية ، وكانوا في حدود سنة 1491 قبل المسيح    . 
قال  ابن جريج    : كان فرعون  هذا قصيرا أحمر فلا نشك في أن منفطاح الثاني  مات غريقا في البحر ، وأنه خرجت جثته بعد الغرق فدفن في وادي الملوك  في صعيد مصر    . فذكر المنقبون عن الآثار أنه وجد قبره هناك ، وذلك يومئ إلى قوله - تعالى : فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية    . ووجود قبر له إن صح بوجه محقق ، لا ينافي أن يكون مات غريقا ، وإن كان مؤرخو القبط  لم يتعرضوا لصفة موته ، وما ذلك إلا لأن الكهنة أجمعوا على إخفائها كيلا يتطرق الشك إلى الأمة فيما يمجد به الكهنة كل فرعون  من صفات بنوة الآلهة . 
وخلفته في ملك مصر  ابنته المسماة ( طوسير    ) لأنه تركها وابنا صغيرا . 
وقد جاء ذكر غرق فرعون  في التوراة  في الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج بعبارات مختلفة الصراحة والإغلاق . 
ومن دقائق القرآن قوله - تعالى : فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية  وهي عبارة لم يأت مثلها فيما كتب من أخبار فرعون ،  وإنها لمن الإعجاز العلمي في   [ ص: 281 ] القرآن إذ كانت الآية منطبقة على الواقع التاريخي . والظاهر أن الأمواج ألقت جثته على الساحل الغربي من البحر الأحمر  فعثر عليه الذين خرجوا يتقصون آثاره ممن بقوا بعده بمدينة مصر  لما استبطئوا رجوعه ورجوع جيشه ، فرفعوه إلى المدينة وكان عبرة لهم . 
				
						
						
