[ ص: 16 ] وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون   لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين  
عطف على جملة ذرهم يأكلوا ويتمتعوا  ، والمناسبة أن المعطوف عليها تضمنت انهماكهم في الملذات والآمال ، وهذه تضمنت توغلهم في الكفر وتكذيبهم الرسالة المحمدية . 
والمعنى : ذرهم يكذبون ويقولون شتى القول من التكذيب والاستهزاء ، والجملة كلها من مقولهم . 
والنداء في يا أيها الذي نزل عليه الذكر  للتشهير بالوصف المنادى به ، واختيار الموصولية لما في الصلة من المعنى الذي جعلوه سبب التهكم ، وقرينة التهكم قولهم إنك لمجنون  ، وقد أرادوا الاستهزاء بوصفه فأنطقهم الله بالحق فيه صرفا لألسنتهم عن الشتم ، وهذا كما كانوا إذا شتموا النبيء - صلى الله عليه وسلم - أو هجوه يدعونه مذمما ; فقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - لعائشة  ألم تري كيف صرف الله عني أذى المشركين وسبهم ، يسبون مذمما وأنا محمد    . 
وفي هذا إسناد الصلة إلى الموصول بحسب ما يدعيه صاحب اسم الموصول لا بحسب اعتقاد المتكلم على طريقة التهكم . 
والذكر : مصدر ذكر إذا تلفظ ، ومصدر ذكر إذا خطر بباله شيء ، فالذكر : الكلام الموحى به ; ليتلى ويكرر ، فهو للتلاوة ;لأنه يذكر ويعاد ; إما لأن فيه التذكير بالله واليوم الآخر ، وإما بمعنى أن به ذكرهم في الآخرين ، وقد شملها قوله تعالى لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم  وقال وإنه لذكر لك ولقومك  والمراد به هنا القرآن . 
 [ ص: 17 ] فتسمية القرآن ذكرا تسمية جامعة  عجيبة لم يكن للعرب علم بها من قبل أن ترد في القرآن . 
وكذلك تسميته قرآنا ; لأنه قصد من إنزاله أن يقرأ ، فصار الذكر والقرآن صنفين من أصناف الكلام الذي يلقى للناس لقصد وعيه وتلاوته ، كما كان من أنواع الكلام الشعر والخطبة والقصة والأسطورة . 
ويدلك لهذا قوله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين  ، فنفى أن يكون الكتاب المنزل على محمد    - صلى الله عليه وسلم - شعرا  ، ووصفه بأنه ذكر وقرآن ، ولا يخفى أن وصفه بذلك يقتضي مغايرة بين الموصوف والصفة ، وهي مغايرة باعتبار ما في الصفتين من المعنى الذي أشرنا إليه ، فالمراد : أنه من صنف الذكر ومن صنف القرآن ، لا من صنف الشعر ، ولا من صنف الأساطير . 
ثم صار القرآن بالتعريف باللام علما بالغلبة على الكتاب المنزل على محمد    - صلى الله عليه وسلم - كما علمت آنفا . 
وإنما وصفوه بالجنون لتوهمهم أن ادعاء نزول الوحي عليه لا يصدر من عاقل ; لأن ذلك عندهم مخالف للواقع توهما منهم بأن ما لا تقبله عقولهم التي عليها غشاوة ليس من شأنه أن يقبله العقلاء ; فالداعي به غير عاقل . 
والمجنون : الذي جن ، أي : أصابه فساد في العقل من أثر مس الجن إياه في اعتقادهم ، فالمجنون اسم مفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول وهو من الأفعال التي لم ترد إلا مسندة للمجهول . 
وتأكيد الجملة بـ ( إن ) واللام لقصدهم تحقيق ذلك له لعله يرتدع عن الاستمرار فيه أو لقصدهم تحقيقه للسامعين حاضري مجالسهم . 
 [ ص: 18 ] وجملة لوما تأتينا بالملائكة  استدلال على ما اقتضته الجملة قبلها باعتبار أن المقصود منها تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم    - ; لأن ما يصدر من المجنون من الكلام لا يكون جاريا على مطابقة الواقع فأكثره كذب . 
و " لوما " حرف تخصيص بمنزلة لولا التحضيضية ، ويلزم دخولها الجملة الفعلية . 
والمراد بالإتيان بالملائكة حضورهم عندهم ليخبرهم بصدقه في الرسالة ، وهذا كما حكى الله في الآية الأخرى بقوله تعالى أو تأتي بالله والملائكة قبيلا    . 
و من الصادقين  أي : من الناس الذين صفتهم الصدق ، وهو أقوى من ( إن كنت صادقا ) ، كما تقدم في قوله تعالى وكونوا مع الصادقين  في سورة براءة ، وفي قوله قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين  في سورة البقرة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					