قال فمن ربكما يا موسى   قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى    . 
هذا حكاية جواب فرعون عن الكلام الذي أمر الله موسى  وهارون  بإبلاغه فرعون  ، ففي الآية حذف جمل دل عليها السياق قصدا للإيجاز . والتقدير : فأتياه فقالا له ما أمرا به ، فقال : فمن ربكما ؟ ولذلك جاءت حكاية قول فرعون  بجملة مفصولة على طريقة حكاية المحاورات التي استقريناها من أسلوب القرآن وبيناها في سورة البقرة وغيرها . 
ووجه فرعون  الخطاب إليهما بالضمير المشترك ، ثم خص موسى  بالإقبال عليه بالنداء ، لعلمه بأن موسى  هو الأصل بالرسالة وأن هارون  تابع له  ، وهذا وإن لم يحتو عليه كلامهما فقد تعين أن يكون فرعون  علمه من كيفية دخولهما عليه ومخاطبته ، ولأن موسى  كان معروفا في بلاط فرعون  لأنه ربيه أو ربي أبيه فله سابقة اتصال   [ ص: 232 ] بدار فرعون  ، كما دل عليه قوله له المحكي في آية سورة الشعراء ( قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين    ) الآية 
ولعل موسى  هو الذي تولى الكلام وهارون  يصدقه بالقول أو بالإشارة . وإضافته الرب إلى ضميرهما لأنهما قالا له ( إنا رسولا ربك    ) . 
وأعرض عن أن يقول : فمن ربي ؟ إلى قوله ( فمن ربكما    ) إعراضا عن الاعتراف بالمربوبية ولو بحكاية قولهما ، لئلا يقع ذلك في سمع أتباعه وقومه فيحسبوا أنه متردد في معرفة ربه ، أو أنه اعترف بأن له ربا . وتولى موسى  الجواب لأنه خص بالسؤال بسبب النداء له دون غيره . 
وأجاب موسى  بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات  جريا على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس ، فإن فرعون  من جملة الأشياء ، فهو داخل في عموم كل شيء . 
وكل شيء مفعول أول ل ( أعطى ) . و ( خلقه ) مفعوله الثاني . 
والخلق : مصدر بمعنى الإيجاد وجيء بفعل الإعطاء للتنبيه على أن الخلق والتكوين نعمة ، فهو استدلال على الربوبية وتذكير بالنعمة معا . 
ويجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخص ، وهو الخلق على شكل مخصوص ، فهو بمعنى الجعل ، أي الذي أعطى كل شيء من الموجودات شكله المختص به ، فكونت بذلك الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص من آثار ذلك الخلق . 
ويجوز أن يكون " كل شيء " مفعولا ثانيا ل ( أعطى ) ومفعوله الأول ( خلقه ) ، أي أعطى خلقه ما يحتاجونه ، كقوله ( فأخرجنا به نبات كل شيء    ) . فتركيب الجملة صالح للمعنيين . 
 [ ص: 233 ] والاستغراق المستفاد من ( كل ) عرفي ، أي كل شيء من شأنه أن يعطاه أصناف الخلق ويناسب المعطي ، أو هو استغراق على قصد التوزيع بمقابلة الأشياء بـ ( الخلق ) ، مثل : ركب القوم دوابهم . 
والمعنى : تأمل وانظر هل أنت أعطيت الخلق أو لا ، فلا شك أنه يعلم أنه ما أعطى كل شيء خلقه ، فإذا تأمل علم أن الرب هو الذي أفاض الوجود والنعم على الموجودات كلها  ، فآمن به بعنوان هذه الصفة وتلك المعرفة الموصلة إلى الاعتقاد الحق . 
و ( ثم ) للترتيب بمعنييه الزمني والرتبي ، أي خلق الأشياء ثم هدى إلى ما خلقهم لأجله ، وهداهم إلى الحق بعد أن خلقهم ، وأفاض عليهم النعم ، على حد قوله تعالى ( ألم نجعل له عينين  ولسانا وشفتين  وهديناه النجدين    ) أي طريقي الخير والشر ، أي فرقنا بينهما بالدلائل الواضحة . 
قال  الزمخشري  في الكشاف : ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					