تفريع على جملة فكأين من قرية أهلكناها وما بعدها . والاستفهام تعجيبي من حالهم في عدم الاعتبار بمصارع الأمم المكذبة لأنبيائها : والتعجيب متعلق بمن سافروا منهم ورأوا شيئا من تلك القرى المهلكة وبمن لم يسافروا ، فإن شأن المسافرين أن يخبروا القاعدين بعجائب ما شاهدوه في أسفارهم كما يشير إليه قوله تعالى أو آذان يسمعون بها فالمقصود بالتعجب هو حال الذين ساروا في الأرض ، ولكن جعل الاستفهام داخلا على نفي السير ؛ لأن سير السائرين منهم لما لم يفدهم عبرة وذكرى جعل كالعدم فكان التعجب من انتفائه ، فالكلام جار على خلاف مقتضى الظاهر . والفاء في ( فتكون ) سببية جوابية مسبب ما بعدها على السير ، أي لم يسيروا سيرا تكون لهم به قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون [ ص: 288 ] بها ، أي انتفى أن تكون لهم قلوب وآذان بهذه المثابة لانتفاء سيرهم في الأرض . وهذا شأن الجواب بالفاء بعد النفي أن تدخل الفاء على ما هو مسبب على المنفي لو كان ثابتا . وفي هذا المعنى قال المعري :
وقيل أفاد بالأسفار مالا فقلنا هل أفاد بها فؤادا
وهذا شأن الأسفار أن تفيد المسافر ما لا تفيده الإقامة في الأوطان من اطلاع على أحوال الأقوام وخصائص البلدان واختلاف العادات ، فهي تفيد كل ذي همة في شيء فوائد تزيد همته نفاذا فيما تتوجه إليه وأعظم ذلك فوائد العبرة بأسباب النجاح والخسارة .
وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مفيض الدم وهو مادة الحياة على الأعضاء الرئيسة وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل ، ولذلك قال ( يعقلون بها ) وإنما آلة العقل هي الدماغ ، ولكن الكلام جرى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال ( يعقلون بها ) فأشار إلى أن القلوب هي العقل .
ونزلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزل سيرهم في الأرض منزلة المعدوم . وأما ذكر الآذان فلأن الآذان آلة السمع والسائر في الأرض ينظر آثار الأمم ويسمع أخبار فنائهم فيستدل من ذلك على ترتب المسببات على أسبابها ، على أن حظ كثير من المتحدث إليهم وهم الذين لم يسافروا أن يتلقوا الأخبار من المسافرين فيعلموا ما علمه المسافرون علما سبيله سماع الأخبار .
وفي ذكر الآذان اكتفاء عن ذكر الأبصار إذ يعلم أن القلوب التي تعقل إنما طريق علمها مشاهدة آثار العذاب والاستئصال كما أشار [ ص: 289 ] إليه قوله بعد ذلك فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت منهم آثارها ( فلهم قلوب لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ) وهذا كقوله تعالى ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون .
والفاء في جملة فإنها لا تعمى الأبصار تفريع على جواب النفي في قوله فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، وفذلكة للكلام السابق ، وتذييل له بما في هذه الجملة من العموم .
والضمير في قوله ( فإنها ) ضمير القصة والشأن ، أي فإن الشأن والقصة هو مضمون الجملة بعد الضمير ، أي لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب . أي فإن الأبصار والأسماع طرق لحصول العلم بالمبصرات والمسموعات ، والمدرك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى والسامع كالأصم ، فآفة ذلك كله هو اختلال العقل .
واستعير العمى الثاني لانتفاء إدراك المبصرات بالعقل مع سلامة حاسة البصر لشبهه به في الحالة الحاصلة لصاحبه . والتعريف في ( الأبصار ، والقلوب ، والصدور ) تعريف الجنس الشامل لقلوب المتحدث عنهم وغيرهم . والجمع فيها باعتبار أصحابها .
وحرف التوكيد في قوله فإنها لا تعمى الأبصار لغرابة الحكم لا لأنه مما يشك فيه .
[ ص: 290 ] وغالب الجمل المفتتحة بضمير الشأن اقترانها بحرف التوكيد .
والقصر المستفاد من النفي وحرف الاستدراك قصر ادعائي للمبالغة بجعل فقد حاسة البصر المسمى بالعمى كأنه غير عمى ، وجعل عدم الاهتداء إلى دلالة المبصرات مع سلامة حاسة البصر هو العمى مبالغة في استحقاقه لهذا الاسم الذي استعير إليه ، فالقصر ترشيح للاستعارة . ففي هذه الآية أفانين من البلاغة والبيان وبداعة النظم .
و ( التي في الصدور ) صفة ( للقلوب ) تفيد توكيدا للفظ ( القلوب ) فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى ولا طائر يطير بجناحيه . ووزان القيد في قوله ( يقولون بأفواههم ) فهو لزيادة التقرير والتشخيص . ويفيد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضا بالقوم المتحدث عنهم بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهم مع شدة اتصالها بهم إذ هي قارة في صدورهم على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فالآن أنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي " فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحب الأشياء إليه .


