لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها .
انتقال من حكاية مطاعنهم في القرآن وبيان إبطالها إلى حكاية مطاعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام .
والضمير عائد إلى الذين كفروا ، فمدلول الصفة مراعى كما تقدم .
[ ص: 327 ] وقد أوردوا طعنهم في نبوءة النبيء صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام عن الحالة المختصة به إذ أوردوا اسم الاستفهام ولام الاختصاص ، والجملة الحالية التي مضمونها مثار الاستفهام .
والاستفهام تعجيبي مستعمل في لازمه وهو بطلان كونه رسولا بناء على أن التعجب من الدعوى يقتضي استحالتها أو بطلانها . وتركيب ( ما لهذا ) ونحوه يفيد الاستفهام عن أمر ثابت له ، فاسم الاستفهام مبتدأ و ( لهذا ) خبر عنه ، فمثار الاستفهام في هذه الآية هو ثبوت حال أكل الطعام والمشي في الأسواق للذي يدعي الرسالة من الله .
فجملة ( يأكل الطعام ) جملة حال . وقولهم : ( لهذا الرسول ) أجروا عليه وصف الرسالة مجاراة منهم لقوله وهم لا يؤمنون به ، ولكنهم بنوا عليه ليتأتى لهم التعجب ، والمراد منه الإحالة والإبطال .
والإشارة إلى حاضر في الذهن ، وقد بين الإشارة ما بعدها من اسم معرف بلام العهد وهو الرسول .
وكنوا بأكل الطعام والمشي في الأسواق عن مماثلة أحواله لأحوال الناس تذرعا منهم إلى إبطال كونه رسولا لزعمهم أن الرسول عن الله تكون أحواله غير مماثلة لأحوال الناس ، وخصوا أكل الطعام والمشي في الأسواق ؛ لأنهما من الأحوال المشاهدة المتكررة . ورد الله عليهم قولهم هذا بقوله : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) . ثم انتقلوا إلى اقتراح أشياء تؤيد رسالته فقالوا : ( لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) . وخصوا من أحوال الرسول حال النذارة ؛ لأنها التي أنبتت حقدهم عليه .
و ( لولا ) حرف تحضيض مستعمل في التعجيز ، أي لو أنزل إليه ملك لاتبعناه .
وانتصب ( فيكون ) على جواب التحضيض .
و ( أو ) للتخيير في دلائل الرسالة في وهمهم .
[ ص: 328 ] ومعنى ( يلقى إليه كنز ) أي : ينزل إليه كنز من السماء ، إذ كان الغنى فتنة لقلوبهم . والإلقاء : الرمي ، وهو هنا مستعار للإعطاء من عند الله ؛ لأنهم يتخيلون الله تعالى في السماء .
والكنز تقدم في قوله تعالى : ( أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز ) في سورة هود . وجعلوا إعطاء جنة له علامة على النبوءة ؛ لأن وجود الجنة في مكة خارق للعادة .
وقرأ الجمهور ( يأكل منها ) بياء الغائب ، والضمير المستتر عائد إلى ( هذا الرسول ) .
وقرأ حمزة ، ، والكسائي وخلف ( نأكل منها ) بنون الجماعة . والمعنى : ليتيقنوا أن ثمرها حقيقة لا سحر .
ذكر أصحاب السير أن هذه المقالة صدرت من كبراء المشركين وفي مجلس لهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، وأبا البختري ، والأسود بن عبد المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وعبد الله بن أبي أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه بن الحجاج ، ومنبه بن الحجاج ، والنضر بن الحارث ، وأن هذه الأشياء التي ذكروها تداولها أهل المجلس ؛ إذ لم يعين أهل السير قائلها .
قال ابن عطية : وأشاعوا ذلك في الناس فنزلت هذه الآية في ذلك . وقد تقدم شيء من هذا في سورة الإسراء .
وكتبت لام ( ما لـ هذا ) منفصلة عن اسم الإشارة الذي بعدها في المصحف الإمام فاتبعته المصاحف ؛ لأن رسم المصحف سنة فيه ، كما كتب ( ما لـ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ) في سورة الكهف ، وكما كتب ( مال الذين كفروا قبلك مهطعين ) في سورة سأل سائل ، كما كتب ( فما لـ هؤلاء القوم ) في سورة النساء . ولعل وجه هذا الانفصال أنه طريقة رسم قديم كانت الحروف تكتب منفصلا بعضها عن بعض ولا سيما حروف المعاني فعاملوا [ ص: 329 ] ما كان على حرف واحد معاملة ما كان على حرفين ، فبقيت على يد أحد كتاب المصحف أثارة من ذلك ، وأصل حروف الهجاء كلها الانفصال ، وكذلك هي في الخطوط القديمة للعرب وغيرهم . وكان وصل حروف الكلمة الواحدة تحسينا للرسم وتسهيلا لتبادر المعنى ، وأما ما كان من كلمتين فوصله اصطلاح . وأكثر ما وصلوا منه الكلمة الموضوعة على حرف واحد مثل حروف القسم أو كالواحد مثل ( أل ) .