قال أولو جئتك بشيء مبين   قال فأت به إن كنت من الصادقين  فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين  ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين    . 
لما رأى موسى  من مكابرة فرعون  عن الاعتراف بدلالة النظر ما لا مطمع معه إلى الاسترسال في الاستدلال ؛ لأنه متعام عن الحق عدل موسى  إلى إظهار آية من خوارق العادة دلالة على صدقه ، وعرض عليه ذلك قبل وقوعه ليسد عليه منافذ ادعاء عدم الرضى بها . 
واستفهمه استفهاما مشوبا بإنكار واستغراب على تقدير عدم اجتزاء فرعون  بالشيء المبين ، وأنه ساجنه لا محالة إن لم يعترف بإلهية فرعون  ، قطعا لمعذرته من قبل الوقوع . وهذا التقدير دلت عليه ( لو ) الوصلية التي هي لفرض حالة خاصة . فالواو في قوله : ( أولو جئتك ) واو الحال ، والمستفهم عنه بالهمزة محذوف دل عليه أن الكلام جواب قول فرعون    : ( لأجعلنك من المسجونين    ) . والتقدير : أتجعلني من المسجونين والحال لو جئتك بشيء مبين ؛ إذ القصد الاستفهام عن الحالة التي تضمنها شرط ( لو ) ؛ بأنها أولى الحالات بأن لا يثبت معها   [ ص: 123 ] الغرض المستفهم عنه على فرض وقوعها وهو غرض الاستمرار على التكذيب ، وهو استفهام حقيقي . 
وليست الواو مؤخرة عن همزة الاستفهام ؛ لأن لحرف الاستفهام الصدارة بل هي لعطف الاستفهام . 
والعامل في الحال وصاحب الحال مقدران دل عليهما قوله : ( لأجعلنك ) ، أي أتجعلني من المسجونين . 
ووصف ( شيء ) بـ ( مبين ) اسم فاعل من أبان المتعدي ، أي مظهر أني رسول من الله . 
وأعرض فرعون  عن التصريح بالتزام الاعتراف بما سيجيء به موسى  فجاء بكلام محتمل إذ قال : ( فأت به إن كنت من الصادقين    ) . وفي قوله : ( إن كنت من الصادقين    ) إيماء إلى أن في كلام فرعون ما يقتضي أن فرض صدق موسى  فرض ضعيف كما هو الغالب في شرط ( إن ) مع إيهام أنه جاء بشيء مبين يعتبر صادقا فيما دعا إليه ، فبقي تحقيق أن ما سيجيء به موسى  مبين أو غير مبين . وهذا قد استبقاه كلام فرعون  إلى ما بعد الوقوع والنزول ليتأتى إنكاره إن احتاج إليه . 
والثعبان : الحية الضخمة الطويلة . 
ووصف ( ثعبان ) بأنه ( مبين ) الذي هو اسم فاعل من أبان القاصر الذي بمعنى بان بمعنى ظهر ، فـ ( مبين ) دال على شدة الظهور من أجل أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، أي : ثعبان ظاهر أنه ثعبان لا لبس فيه ولا تخييل . 
وبالاختلاف بين ( مبين ) الأول و ( مبين ) الثاني اختلفت الفاصلتان معنى فكانتا من قبيل الجناس ولم تكونا مما يسمى مثله إيطاء . 
والإلقاء : الرمي من اليد إلى الأرض ، وتقدم في سورة الأعراف . 
والنزع : سل شيء مما يحيط به ، ومنه نزع اللباس ، ونزع الدلو من البئر . ونزع اليد : إخراجها من القميص ، فلذلك استغنى عن ذكر المنزوع منه لظهوره ، أي أخرج يده من جيب قميصه . 
 [ ص: 124 ] ودلت ( إذا ) المفاجئة على سرعة انقلاب لون يده بياضا . 
واللام في قوله : ( للناظرين ) يجوز أن تكون اللام التي يسميها ابن مالك  وابن هشام  لام التعدية ، أي اتصال متعلقها بمجرورها . والأظهر أن تكون اللام بمعنى ( عند ) ويكون الجار والمجرور حالا . وقد مضى بيان ذلك عند قوله تعالى في سورة الأعراف : ( ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين    ) . 
ومعنى ( للناظرين ) أن بياضها مما يقصده الناظرون لأعجوبته ، وكان لون جلد موسى  السمرة . والتعريف في ( للناظرين ) للاستغراق العرفي ، أي لجميع الناظرين في ذلك المجلس . وهذا يفيد أن بياضها كان واضحا بينا مخالفا لون جلده بصورة بعيدة عن لون البرص . 
				
						
						
